· قال ابن الحصار رحمه الله: وقد تضمن هذا الاسم (يعني الحكم) جميع الصفات العلى (تذكير: الحكم والحكيم يتفقان في أصل هذه اللفظة) إذ لا يكون حكما إلا سميعا بصيرا عالما خبيرا إلى غير ذلك , فهو سبحانه الحكم بين العباد في الدنيا والآخرة , في الظاهر والباطن , وفيما شرع من شرعه وحكم من حكمه , وقضاياه على خلقه قولا وفعلا , وليس ذلك لغير الله تعالى وذلك قال وقوله الحق: (لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وقال: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) , فلم يزل حكيما قبل أن يحكم , ولا ينبغي ذلك لغيره.
· مما يؤثر فينا أيضا إذا كان الرب الذي نعبده ونتقرب إليه تعرف إلينا بأنه حكيم:
- أن يعلم العبد ويتقين ويطمئن قلبه , أن هذا الرب الذي اتصف بهذه الصفة الكاملة , أنه لا يسوي بحال من الأحوال بين الأمور المختلفة المتضادة , وكذلك لا يفرق بين الأمور المتماثلة , فالذين يعملون الخير والحسنات لا يحشرهم في زمرة المجرمين , ولا يجعل مصيرهم متحدا مع مصير الظالمين , كما أن هؤلاء الظلمة من المجرمين العتاة , لا يجعل مصيرهم مصير أهل الإيمان الذين يراقبونه ويخافونه ويتقربون إليه بألوان القربات , فالله جل وعلا لا يفعل ذلك لأن هذا مخالف للحكمة , والله يقول وهو أصدق من يقول وأعدل من حكم: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) , ينكر هذا الأمر وأنه لا يتصور ولا يفع منه بحال من الأحوال , (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) حيث إن هذا الحكم من أبطل الأحكام , وإن هذه الدعوة من الدعاوى الكاذبة المجردة عن الحقيقة , لأن من فعل ذلك فهو أبعد ما يكون عن الحكمة.
ويقول أيضا: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) , فالله عزوجل يفرق بين حال هؤلاء وهؤلاء في الدنيا والآخرة , فالذين يكونون من جملة أوليائه يجعل لهم العاقبة في الدنيا بالنصر والتمكين , ويجعل لهم أيضا من انشراح الصدر والقبول في الأرض والسعادة التي لا يدانيها سعادة بمعرفة الله عزوجل واتساع الصدر وانشراحه بهذه المعرفة , فيوفقهم وينقلهم من هدى إلى هدى , كل ذلك لأنهم من أوليائه , وفي الآخرة يجعل منازلهم الجنة , وأما الذين يعادونه ويحاربونه , فإن الله عزوجل يجعل لهم من النكد والحسرة في الحياة الدنيا والخزي والذل ما لا يوصف وما لا يقادر قدره , ويجعل لهم في العذاب في الآخرة والنكال والجحيم مالا يخطر على بال , والله ربنا يقول: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) , ويقول عزوجل: (لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ) , وإذا نفى الله عزوجل المساواة في مثل هذا السياق فإن هذا يدل على نفيه من كل وجه من الوجوه , فلا مقاربة ولا استواء في حال من الأحوال , لا يستوون في الدنيا ولا يستوون في البرزخ ولا في أرض المحشر ولا في المستقر في الجنة أو في النار , بل إن الله عزوجل ينكر على من توهم أن الله يدخل الجنة أحدا من عباده من غير ابتلاء ولا امتحان , ومن غير تمييز للطيب من الخبيث , وللصادق من الكاذب , فإن حكمته تقتضي خلاف ذلك , فالله جل وعلا يقرر هذا المعنى بقوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) , العلم الذي يترتب عليه الحكم العلم الذي يترتب عليه الجزاء , فإن الله لا يحاسبنا بمقتضى علمه قبل أن يعمل العبد عمله في الخارج , ويقول جل وعلا: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) , ولذلك فهم المؤمنون هذا المعنى فهما جيدا صحيحا
¥