حياة هذا الإمام مليئة بالأمور الجليلة القدر كثيرة المعارف متشعبة المسالك بحيث يصح أن تفرد كل مرحلة من مراحل حياته أو يفرد كل جانب من جوانب شخصيته بمصنف مستقل ودراسة فاحصة لها تبحث عن الدر المكنون بين صدفاتها لكن هذه إطلالة على بعضها - كما هو دأب الباحثين – وسيكون ذلك خلال ما يلي:
المطلب الأول: اسمه ولقبه وكنيته (1)
هو الإمام الرباني الفقيه المجتهد المجدد بحر العلوم العقلية والنقلية شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن الشيخ الإمام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن أبي محمد عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن تيمية بن الخضر بن علي بن عبد الله النميري.
لقبه: لقب بشيخ الإسلام (2) وبابن تيمية (3) وغالباً ما يجمع بينهما فيقال: شيخ الإسلام ابن تيمية.
كنيته: كني بأبي العباس مع أنه لم يتزوج (4)؛ ذلك أنه من السنة أن يكنى المسلم ولو لم يولد له أو كان صغيراً لحديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله كل نسائك لها كنية غيري فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكتني بابنك عبد الله [يعني ابن الزبير] أنت أم عبد الله" (1) ولقول أنس رضي الله عنه إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل فرأى ابناً لأبي طلحة يقال له: أبو عمير، وكان له نغير يلعب به فقال: "يا أبا عمير ما فعل النغير؟ " (2)
المطلب الثاني: ولادته وأسرته ونشأته:
ولادته (3) ولد الإمام ابن تيمية في يوم الاثنين 10 ربيع الأول سنة 661 هـ في حران
أسرته: وهي أسرة معروفة بالعلم والصلاح إذ إنهم يتوارثون العلم فيما بينهم وكانت لهم الصدارة في المسجد الجامع ومن هذه الأسرة الطيبة الإمام مجد الدين بن عبد السلام وولده الإمام الشيخ عبد الحليم والد الإمام أحمد بن تيمية وكانت هذه الأسرة تسلك في التدليل على المسائل العقدية والفقهية مسلك الحنابلة فشرب الإمام العلم منذ نعومة أظفاره في حجر أبيه فكان للعلم تقدير خاص لديه بسبب إجلال أسرته للعلم وشهرتها به فدرس علوم الشريعة المختلفة منذ صغره حيث كان يحضر المحافل العامة فكان يناقش ويرد ويفتي وهو في ريعان الشباب حتى إنه تولى الدرس بعد موت أبيه وحضر له كبار أئمة ذلك العصر وأعجبوا من علمه وسرعة استحضاره مما يشهد ببراعته منذ صغره.
نشأته: لقد أثرت فيه بيئته أيما تأثير؛ ذلك أن البيئة المحيطة به بيئة علم وصلاح "فنشأ بها أتم إنشاءٍ وأزكاه وأنبته الله أحسن النبات وأوفاه وكانت مخايل النجابة عليه في صغره لائحة ودلائل العناية فيه واضحة .. [وقد أثرت فيه هذه النشأة أيما تأثير وجعلته منذ] صغره
مستغرق الأوقات في الجد والاجتهاد فختم القرآن صغيراً ثم اشتغل بحفظ الحديث و [دراسة] الفقه والعربية حتى برع في ذلك مع ملازمة مجالس الذكر وسماع الأحاديث
والآثار (1) فنموه في تلك البيئة جعلته من المنهومين بطلب العلم والناهلين من منابع المعرفة بعين فاحصة متخصصة ثم ظهر ذلك من خلال كتاباته وتآليفه ومواقفه دفاعاً عن الشريعة الغراء بكل ما يستطيع من جهد وبكل ما أوتي من قوة، وهذه ثمرات نشأته الأولى وبيئته وأسرته إذ اكتحلت عيناه برؤية كبار علماء عصره وشنفت أذناه بسماع الحديث والآثار من أئمة عصره فارتشف العلم منذ نعومة أظفاره مما كان له أكبر الأثر في تكوين ملكته العلمية والتي أهلته للإمامة عبر العصور.
المطلب الثالث: شيوخه وتلاميذه:
إن نفساً عملاقة كنفس الإمام ابن تيمية تنبئ عن تعدد مناهل المعرفة وتنوع روافد أصول العلم التي تلقى ثقافته ومعرفته من خلالها وهذا بدوره يؤكد أن الإمام ابن تيمية قد تلقى العلم على أيدي كثير من الشيوخ والشيخات وتعدد الشيوخ والشيخات راجع إلى تعدد روافده وتنوع العلوم التي درسها والمعارف التي تلقاها واستوعبتها ذاكرته الحديدية وأدركها بعقله الكبير، وطبيعي أن من هذه أحواله إضافة إلى ترجمته الحافلة بأنواع شتى من جهاد وتعليم وأمر بمعروف ونهي عن منكر ولهج بذكر الله وحسن عشرة ومعاملة وزهد في منصب وفي دنيا ... أن يكون له تلاميذ يحملون عنه علمه الغزير وهؤلاء الذين تلقوا عنه أصبح كل واحد منهم إماماً.
¥