ثالثها: تحقيق المعاني الشرعية التي شُرعت لها الأحكام فهو على ذلك جد حريص في كل ما يختار ويفتي ويعلن من آراء" (2) وقدَّر العلماء تلك الاختيارات كلٌّ حسب اطلاعه عليها أو على بعضها وقد قال تلميذه الإمام ابن كثير: "وله اختيارات كثيرة مجلدات عديدة أفتى فيها بما أدى إليه اجتهاده واستدل على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والسلف" (1) وهذه الاختيارات منها ما وافق بعض المذاهب ومنها ما خالف المذاهب الأربعة وقد اشتهر عنه أنه "قد خالف الأئمة فيما على سبع عشرة مسألة بل أنهى برهان الدين (2) [ابن الإمام] ابن القيم مخالفته لبعضهم إلى ما يزيد على خمسين مسألة" (3).
المطلب الأول: المسائل التي انفرد بها الإمام ابن تيمية:
المقصود من هذا الانفراد أي: عن الأئمة الأربعة أو عن المشهور بها بما ترجح لديه من كتاب أو سنة أو نقل عن السلف منها:
1 - القول بجواز التيمم لمن خاف فواته: الجنازة أو العيد أو الجمعة أو الجماعة الواجبة (4).
2 - القول بأن سجود التلاوة لا يشترط له وضوء. (5)
3 - اختار أن تارك الصلاة لا يجب عليه القضاء ولا يشرع له بل يكثر من النوافل (6)
4 - جواز القصر في كل ما يسمى سفراً طويلاً كان أو قصيراً (7).
5 - القول بأن من أكل من شهر رمضان معتقداً أنه ليل فبان نهاراً لا قضاء عليه (8).
6 - عدم إعطاء الزكاة للمصرين على المعاصي والمظهرين للبدعة والفجور (9).
7 - جواز نقل الزكاة لأقاربه في بلدة أخرى. (1)
8 - قوله بالتكفير في الحلف بالطلاق؛ لأنه يمين (2).
9 - قوله بأن الطلاق المحرم لا يقع (3).
10 - قوله بأن الطلاق الثلاث لا يقع إلا مرة واحدة (4).
فهذه بعض مسائل انفرد بها هذا الإمام العظيم متبعاً لما ترجح لديه دليلها فوافقه علماء وخالفه آخرون مما سبب له أذىً كما قال عصريه الإمام الذهبي: "وقد انفرد بفتاوى نيل من عرضه لأجلها وهي مغمورة في بحر علمه فالله تعالى يسامحه ويرضى عنه فما رأيت مثله وكل أحد من الأئمة فيؤخذ من قوله ويترك فكان ماذا؟! " (5) فهو إمام مجتهد أفرغ كل وسعه في الوصول إلى الحق وعُرف عنه التمسك بالكتاب والسنة مع الإجلال التام لأئمة الإسلام كما عُرف عنه التوسع والتعمق في الشريعة فإذا أداه اجتهاده إلى الإفتاء ببعض المسائل فهو كغيره من المجتهدين ينظر إليه بعين الإنصاف ويقال فيه كما يقال في سائر علماء المسلمين: هو مأجور في الحالتين: إما أجران وإما أجر واحد؛ لأنه لم يتوصل لمثل تلك الفتاوى عن طريق الهوى والجهل كما شهد بذلك إمام الدنيا الحافظ ابن حجر العسقلاني بقوله: "إنه شيخ في الإسلام بلا ريب، والمسائل التي أُنكرتْ عليه ما كان يقولها بالتشهي ولا يصر على القول بها بعد قيام الدليل عليه عناداً… فالذي أصاب فيه هو الأكثر يستفاد منه ويترحم عليه بسببه والذي أخطأ فيه لا يُقلد فيه بل هو معذور؛ لأن أئمة عصره شهدوا له بأن أدوات الاجتهاد اجتمعت فيه" (6) فهذه شهادة إنصاف من هذا الإمام والذي قد أتى بعده بعقود وقال هذا الكلام بعد اطلاع على أقوال أهل العلم من موافقين أو مخالفين "وبالجملة كان – رحمه الله- من كبار العلماء وممن يخطئ ويصيب ولكنْ خطؤه بالنسبة إلى صوابه كنقطة في بحر لجِّيٍّ وخطؤه مغفور له كما في صحيح البخاري [وصحيح مسلم]: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد) (1) " (2) فعلم من ذلك مدى اهتمام الإسلام بالعلم والعلماء؛ لأنهم يدافعون عن الشريعة ويدعون إليها فإذا اجتهدوا وأخطئوا في مسائل فإنهم مأجورون معذورون.
المطلب الثاني: بعض الشبهات التي أثيرت حوله.
الطاعنون عبر التاريخ لا يفرقون بين نبي وصديق ولا عالم وجاهل بل إنهم يلهثون وراء أهوائهم وشهواتهم وعلمهم هذا كظهور السراب للظمآن ماءً كما أخبر الله سبحانه في قوله: (كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً) (3) ومن هذا الصنف أناس طعنوا في الإمام ابن تيمية وحالهم كما قال الله تعالى: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس) (4) وقوله: (إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً) (5) وأصل ذلك شهوات تبعوها أو شهوات عرضت لهم فخاضوا فيها دون روية ولا إنصاف.
ولتلك الشبهات التي أثيرت حول الإمام ابن تيمية أسباب منها:
1 - خوفهم على مناصبهم لظنهم أنه يرنو إلى منصب أو جاه.
¥