1 - حديث العلاء بن الحضرمي مرفوعا: (يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا) [م 1352]، قال النووي في شرح مسلم:" معنى الحديث: أن الذين هاجروا من مكة قبل الفتح إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم عليهم استيطان مكة والإقامة بها، ثم أبيح لهم إذا وصلوها بحج أو عمرة أو غيرهما أن يقيموا بعد فراغهم ثلاثة أيام ولا يزيدوا على الثلاثة، واستدل أصحابنا وغيرهم بهذا الحديث على أن إقامة ثلاثة ليس لها حكم الإقامة، بل صاحبها في حكم المسافر، قالوا: فإذا نوى المسافر الإقامة في بلد ثلاثة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج جاز له الترخيص برخص السفر من القصر والفطر وغيرهما من رخصه، ولا يصير له حكم المقيم "
والجواب عن هذا الاستدلال من وجوه:
الأول: أن الحديث ليس فيه إشارة إلى أن العلة من التحديد بالثلاثة أيام هي أن ما فوق الثلاثة يعتبر استيطانا.
الثاني: أن المستدل بهذا الحديث لا يخلو إما أن يقول إن المهاجر إن أقام ثلاثا فإنه يقصر فيها الصلاة، أو يقول إنه إن أقام ثلاثا فإنه يتم، فإن قال إنه يقصر في الثلاثة دون ما فوقها، فيقال له: ما الجواب عن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث أقام بمكة في حجة الوداع أربعة أيام يقصر الصلاة، فهذه فوق الثلاثة وقد قصر فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن قال إنه يتم، فيقال له: إذا صار مقيما، وهو مخالف للتعليل الذي ذكرتموه، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما حدد الأيام لئلا يكون مقيما، وأيضا إذا قلنا يتم فمعنى هذا أنه مسافر إن أقام يومين فقط لا ثلاثة.
الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أباح للمهاجر ثلاثة أيام، وسماه فيها مقيما، وهذا يخالف هذا القول، حيث إن أصحاب هذا القول يقولون إنه في الثلاثة فما دون يعتبر مسافرا، وقد سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - مقيما.
الرابع: أن الحديث إنما جاء لبيان المدة التي له أن يمكث فيها، وهذا كسائر التحديدات الشرعية التي يرجع فيها إلى الشرع.
الخامس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الحديث: (بعد قضاء نسكه) وهذا النسك لا يخلو من أن يكون حجا أو عمرة، فإن كان حجا فإن الحج ينتهي في خمسة أيام، وقد أباح له النبي - صلى الله عليه وسلم - الإقامة ثلاثا فوقها فصارت بذلك ثمانية أيام لا ثلاثة، فهم في الحقيقة لم يجلسوا ثلاثة أيام فقط، بل هذه الثلاثة بعد إتمام الحج، وإن كان النسك عمرة فإن العمرة تكون في يوم، وقد أباح له النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا فوقها فصارت بذلك أربعة أيام، فمن أين التحديد بالثلاثة أو بالأربعة.
2 - أن هذا مروي عن عثمان - رضي الله عنه -
القول الثالث: إذا نوى الإقامة أكثر من خمسة عشر يوما أتم، وهذا مذهب أبي حنيفة وهو قول الثوري والمزني، واستدلوا بما روي عن ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم - أنهما قالا:" إذا قدمت بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يوما فأكمل الصلاة " رواه الطحاوي.
وهناك مذاهب أخرى لأفراد الصحابة والتابعين، فمذهب ابن عباس - رضي الله عنهما - أن إذا نوى الإقامة تسعة عشر يوما قصر، وما زاد فإنه لا يقصر، وقد صرح - رضي الله عنه - بهذا في حديث رواه البخاري عنه أنه قال:" أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعة عشر يقصر فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا وإن زدنا أتممنا " [خ 1080]، ومذهب الأوزاعي أنه إذا نوى الإقامة ثلاثة عشر يوما أتم وإن نوى أقل من ذلك قصر، وعن ربيعة: يوم وليلة، وعن الحسن البصري: أن المسافر يصير مقيما بدخول البلد، والأقوال في هذه المسألة تزيد على العشرين.
والقول الراجح فيما أعتقد هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو اختيار ابن القيم والشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، والشيخ عبد الرحمن السعدي، والشيخ محمد رشيد رضا، وشيخنا ابن عثيمين، وهو أنهم مسافرون، ما لم ينووا الاستيطان أو الإقامة المطلقة، واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 - إطلاق الأدلة كقوله تعالى {وإذا ضربتم في الأرض} وهذا عام يشمل جميع الضاربين من أطال من هم ومن قصر.
2 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام في تبوك عشرين يوما يقصر الصلاة [حم 13726، د 1235، حب 4/ 184، هق 3/ 152، قال أبو داود غير معمر لا يسنده، ورده النووي في الخلاصة كما نقله الزيلعي في نصب الراية 2/ 186:" هو حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ومسلم، لا يقدح فيه تفرد معمر فإنه ثقة حافظ فزيادته مقبولة " وقال الحافظ في التلخيص 2/ 45:" ... ورواه ابن حبان والبيهقي من حديث معمر، وصححه ابن حزم والنووي ..... "، والحديث صححه الألباني]
قال شيخ الإسلام في الفتاوى [24/ 136]:" ومعلوم بالعادة أن مما يفعل بمكة وتبوك لم يكن ينقضي في ثلاثة أيام ولا أربعة، حتى إنه كان يقول: اليوم أسافر، غدا أسافر "
3 - أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة عام الفتح تسعة عشر يوما يقصر الصلاة [خ 1080، 4298]
4 - عن أبي جمرة نصر بن عمران قال: قلت لابن عباس: إنا نطيل المقام بخراسان فكيف ترى؟ قال:" صل ركعتين وإن أقمت عشر سنين " رواه ابن أبي شيبة.
5 - أقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة وقد حال الثلج بينه وبين الدخول [هق 3/ 152، وأخرجه عبد الرزاق 2/ 533، والأثر صححه ابن الملقن، وقال ابن حجر في الدراية 1/ 212:" إسناده صحيح "، وقال النووي معلقا على سند البيهقي: وهذا سند على شرط الشيخين، انظر التلخيص الحبير 2/ 47، نصب الراية 2/ 185]
6 - روى البيهقي [3/ 152] أن أنسا أقام بالشام يقصر سنتين.
7 - روى البيهقي كذلك عن أنس أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقاموا برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة.
ثم نقول: من نوى الإقامة ستا وتسعين ساعة فله أن يقصر على مذهب الحنابلة، ومن نوى الإقامة ستا وتسعين ساعة وعشر دقائق فليس له أن يقصر، لأن الأول مسافر والثاني مقيم، فأين هذا التقسيم في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. [انظر زاد المعاد 3/ 561 - 565]
والله أعلم
¥