وحتى لا يكون كلامي مجرد دعوى بدون برهان، أو يكون قولا متهاويا بعيدا عن الصواب بعد المشرق عن المغرب = اسمع ما ينقله جماعة من أهل العلم عن الإمام ابن المنذر – رحمه الله – في حكاية مذاهب أهل العلم في هذا المسألة: اختلف في الهلال يراه أهل بلد ولا يراه غيرهم: فقال قوم: لأهل كل بلد رؤيتهم، إتباعا لظاهر حديث ابن عباس – رضي الله عنه – منهم القاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وعكرمة، وإسحاق، وقال أكثر الفقهاء إذا ثبت أن أهل بلد رأوه فعليهم قضاء ما أفطروا. وهو قول أصحاب الرأي ومالك، وإليه ذهب الشافعي وأحمد. نقل كلام الإمام ابن المنذر جماعة من أهل العلم منهم الإمام الخطابي في معالم السنن 3/ 220، وصاحب المشايخ المجاهيل أبي العباس القرطبي في المفهم 3/ 143. وغيرهم ولم أعلم أن أحدا منهم اعترضه، ثم لاحظ – أخي – أن ابن المنذر توفي – رحمه الله – قبل ميلاد الحافظ ابن عبد البر بأكثر من نصف قرن.
وقال الوزير ابن هبيرة في الإفصاح عن معاني الصحاح 1/ 197 - 198: (واختلفوا في رؤية بعض أهل البلاد هل يلزم بقية أهل البلاد إذا لم يروه؟ فقال أبو حنيفة، وأحمد إذا رآه أهل بلد لزم جميع أهل الأرض، سواء كان البلدان متاقربين أو متباعدين، تختلف مطالعهما أو تتفق، إلا أن أصحاب أبي حنيفة خاصة بينهم خلاف فيما تختلف فيه المطالع، ولم يحد فيه حدا، وقال الشافعي ... واتفقوا على أنه إذا رؤى الهلال في بلد رؤية فاشية؛ فإنه يجب الصوم على سائر أهل الدنيا؛ إلا ما رواه أبو حامد الإسفرائيني من أنه لا يلزم باقي البلاد الصوم، وغلطه القاضي أبو الطيب الطبري؛ وقال: هذا غلط منه، بل إذا رأى أهل بلاد هلال رمضان لزم الناس كلهم الصوم في سائر البلاد).
وقد تركت ذكر كلام غير هؤلاء في حكاية مذاهب أهل العلم في هذه المسألة، وفي قولهم تصريح وتلميح إلى أن القول بعدم اعتبار اختلاف المطالع قول جمهور أهل العلم، فلينظر الشيخ على سبيل المثال، شرح السنة للبغوي - رحمه الله -، وطرح التثريب للعراقي - رحمه الله - 4/ 116، وفقه السنة للسيد سابق، وتعليقات ناصر الملة والدين - رحمه الله - على ذلك فهي مفيدة.
ثم اعلم - أخي - العزيز أني لن أقبل منك بعد هذه النقول أن تقول لي: إن جماهير أهل العلم على ما ذكرت حتى تأتيني بمثل ما أتيتك بهن أو أحسن منه.
وتبقى مهمة محاولة الجمع بين ما ذكر من إجماع ابن عبد البر وبين ما نقلته لك من أقوال جمهور أهل العلم في ذلك عليك لو أردت أن تسلك هذا السبيل، وما أراه إلا طريقا لاحبا لمن سلكه، وانظر لعل القرطبي صاحب المشايخ المجاهيل يعينك في هذا؟
أما نقل كلام أهل الفروع من أصحاب الأئمة الثلاث بل الأربع في تأييد ذلك، والتصريح بصوم أهل المشرق برؤية أهل المغرب، وأنه لا عبرة باختلاف المطالع = ففيه طول لا أحبذه، ولكن لو أراد الشيخ أتيته بما تقر به عينه.
وقولك: وأما أن ابن رشد يردد كلام ابن عبد البر، فدعوى بغير برهان.
قلت: نعم هي كذلك لمن لم يعرف طرائق القوم في استفادتهم من بعضهم البعض، ونقلهم لكلام غيرهم بدون عزو لاعتمادهم على حفظهم – رحمهم الله -.
وقولك: وأما محاولة صاحب النيل بالطعن في هذا الإجماع، فبعيد عنه. وهو معروف بأنه ممن اتبع غير سبيل المؤمنين وأنكر حجية الإجماع الذي هو المصدر الرابع في التشريع. فلذلك لا يعوّل على اجتهاداته التي شذ بها. وقد رأيت من تكلفه الشديد في تأويل الحديث الصحيح وتعطيله ما يشيب له ما تبقى من شعر الرأس.
قلت: هذه دعوى أخرى من الشيخ محمد الأمين، ومعلوم أن المدعي مطالب بإقامة الدليل على دعواه، فهل يفعل الشيخ محمد الأمين ذلك ويدلنا أين وجد عن الإمام الشوكاني إنكاره لحجية الإجماع؟ ثم نبحث بعد ذلك هل يدخل بإنكاره ذاك تحت الآية أم لا؟
وأما ما رأيته من تكلفه الشديد ... فليتك رددته بعلم، حتى يظهر لنا هذا التكلف جليا، فقد رأيت جمعا من أهل العلم نقل كلام هذه الإمام الهمام وارتضاه، فانقضه بعلم – أخي – إن كنت ترده وتأباه.
وقولك: وكون القرطبي المالكي قد نقل عن مشايخه (المجاهيل) إطلاق القول بوحدة المطالع، فهؤلاء محجوجون بالإجماع الذي قبلهم.
قلت: لو كان هناك إجماع صحيح ما كان لهؤلاء جميعا أن يخالفوه، فهم اتقى لله وأورع من أن يفعلوا ذلك، وما إعراض جميع من ذكرت لك – من مشايخ القرطبي المجاهيل وغيرهم من أئمة المذاهب المعروفين - عن دعوى الإجماع تلك إلا دليل على رد هذه الدعوى على قائلها.
ومشايخ الإمام القرطبي أبي العباس الأبعدين – وهم مشايخ المذهب المالكي الذي يعنيهم هنا – وكذا مشايخه الأقربون= ليسوا بالمجاهيل عند أهل العلم، ولم يكونوا يوما كذلك، فمن لم تعرفه منهم فقد عرفه غيرك ممن يهمه أمرهم. فأشر على أي واحد منهم إن كنت عرفت من هم المشايخ المقصودون بكلمة أبي العباس تلك، وأنا زعيم بأن أذكر لك من ترجمته ما يدفع عنه ما قلت، والله الهادي إلى سواء السبيل.
وقولك: هل يعني أنك موافق لشيخ الإسلام في مقولته هذه أم لا؟
قلت: إعجابي بكلام شيخ الإسلام – رحمه الله – لا يعني أبدا أن أوافقه في كل ما يقول، وكذلك الحال بالنسبة إليك، ثم إن قولي: (كله) لا يعني الكلية، فتأمل. ولو قام الدليل عندي على صحة ما يقوله شيخ الإسلام وغيره في هذا، لاتبعته. ثم ما ينفعك – بارك الله فيك – في مقامنا هذا لو قلت لك: نعم إني أوافق شيخ الإسلام في دعواه تلك. فما الذي سيتغير – أحسن الله إليك -.
¥