ـ[عبد الرحمن السديس]ــــــــ[17 - 11 - 05, 01:18 م]ـ
في درء تعارض العقل والنقل 6/ 243:
ولهذا كان جميع العقلاء السالمي الفطرة يحكمون بموجب هده القضية الضرورية [العلو] قبل أن يعلموا أن في الوجود من ينكرها ويخالفها.
وأكثر الفطر السليمة إذا ذكر لهم قول النفاة بادروا إلى تجهيلهم، وتكفيرهم، ومنهم من لا يصدق أن عاقلا يقول ذلك = لظهور هذه القضية عندهم، واستقرارها في أنفسهم، فينسبون من خالفها إلى الجنون، حتى يروا ذلك في كتبهم أو يسمعوه من أحدهم.
ولهذا تجد المنكر لهذه القضية يقر بها عند الضرورة، ولا يلتفت إلى ما اعتقده من المعارض لها، فالنفاة لعلو الله إذا حزب أحدهم شدة وجه قلبه إلى العلو يدعو الله.
ولقد كان عندي من هؤلاء النافين لهذا من هو من مشايخهم، وهو يطلب مني حاجة، وأنا أخاطبه في هذا المذهب، كأني غير منكر له، وأخرت قضاء حاجته حتى ضاق صدره، فرفع طرفه ورأسه إلى السماء، وقال: يا الله، فقلت له: أنت محقق لمن ترفع طرفك ورأسك؟ وهل فوق عندك أحد؟!
فقال: استغفر الله، ورجع عن ذلك لما تبين له أن اعتقاده يخالف فطرته، ثم بينت له فساد هذا القول، فتاب من ذلك، ورجع إلى قول المسلمين المستقر في فطرهم.
ـ[عبد الرحمن السديس]ــــــــ[19 - 11 - 05, 07:41 م]ـ
قال الإمام ابن سعدي ـ رحمه الله ـ في كتاب مجموع الفوائد واقتناص الأوابد ص39:
وقع رجل في رجل من أهل الدين، وجعل يعيبه ويُعَيِّن بعض ما يعيبه به، فقال بعض الحاضرين له:
هل أنت متيقن ما عبته فيه؟
ومن أي طريق أخبرت به؟
ثم إذا كان الأمر الذي ذكرته يقينيا؛ فهل يحل لك أن تعيبه أم لا؟
أما الأول: فإني أعر ف أنك لم تجالس الرجل، وربما أنك لم تجتمع به، وإنما بنيت كلامك على ما يقوله بعض الناس عنه!
وهذا معلوم أنه لا يحل لك أن تبني على كلام الناس، وقد علم منهم الصادق والكاذب، والمخبر عمّا رأى، والمخبر عمّا سمع، والكاذب الذي يخلق ما يقول؛ فاتضح أنه على كل هذه التقادير لا يحل لك القدح فيه.
ثم ننتقل معك إلى المقام الثاني
وهو: أنك متيقن أن فيه العيب الذي ذكرته، وقد وصل إليك بطريق يقيني؛ فهل تكلمت معه، ونصحته، ونظرت هل له عذر أم لا؟
فقال: لم أتكلم معه في هذا بالكلية.
فقال له: هذا لا يحل لك، إنما يجب عليك إذا علمت من أخيك أمرا معيبا أن تنصحه بكل ما تقدر عليه قبل كل شيء، ثم إذا نصحته، وأصر على العناد؛ فانظر هل لك في عيبك له عند الناس مصلحة، وردع أم في ذلك خلاف ذلك؟
وعلى الأحوال كلها، فأنت أظهرت في عيبك هذا له الغيرة على الدين وإنكار المنكر، وأنت في الحقيقة الذي فعل المنكر.
وما أكثر من يجري منه مثل هذه الأمور الضارة التي يحمل عليها ضعف البصيرة، وقلة الورع. الله أعلم.
ـ[عبد الرحمن السديس]ــــــــ[20 - 11 - 05, 08:16 م]ـ
في كتاب أخبار القضاة لوكيع 3/ 241:
قال أخبرني عبد الله بن شبيب أبو سعيد قال حدثني يحيى بن محمد بن طلحة بن عبد الله بن عبدالرحمن بن أبي الصديق قال حدثني سليمان بن بلال قال كان يحيى بن سعيد قد ضاق واشتدت حاله حتى جلس في البيت فبينا هو على ذلك إذ جاءه كتاب أبي العباس يأمره بالخروج إليه، فكنت أنا الذي جهزته، ووكلني بالقيام على أهله، والنفقة عليهم، فلما خرجنا من داره ـ وهو يريد العراق ـ كان أول ما لقينا جنازة قد طلعت فتغير وجهي لذلك؛ فقال: كأنك تطيرتَ؟
فقلتُ: نعم.
فقال: فلا تفعل، فوالله لئن صدقنا الفأل لينعشن الله أمري، فكان كما قال، فأصاب خيرا، وبعث إلى بقضاء دينه، وقال لي، وأنا معه: ما من شيء إلا وقد علمتُه.
قال سليمان بن بلال: ثم جاءني كتابه بعد ما استقضي قد كتب:
قلت لك: ما من شيء إلا وقد علمتُه، فأقسم لك بالله لأول خصمين جلسا بين يدي في أمر لا والله ما سمعت فيه بشيء!!
فإذا جاءك كتابي هذا فاسأل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن كذا وعن كذا، ولا تخبره أني كتبت إليك تسأله، فجئت ربيعة فسألته، فقال: صاحبك كتب إليك تسألني عن هذا؟
قال: فكأني أمسكتُ.
قال: فإني أسألك؟ وقال: لا أجيبك حتى تخبرني.
فأخبرته؛ فأجابني، وكتبت إلى يحيى بن سعيد بذلك. اهـ
- يحيى بن سعيد الأنصاري سمع من أنس رضي الله، وكان من كبار علماء المدينة.
- و لعله هذا من تأديب الله تعالى له على تلك الكلمة، وتشبه هذا القصة ما وقع لنبي الله موسى عليه السلام، وما جرى بعدها من حكايته مع الخضر.
- في بيان الإمام يحيى بن سعيد لسليمان بلال هذه الحادثة يدل على صدقه، وندمه على كلامه، وحرصه على بيان ذلك لصاحبه ليكون درسا له أيضا، وإلا فقد كان يمكنه أن يرسل بالسؤال من غير بيان لما حدث له.
والله أعلم.
ـ[عبد الرحمن السديس]ــــــــ[26 - 11 - 05, 05:06 م]ـ
قال الإمام المروذي في "أخبار الشيوخ وأخلاقهم " ص195:
سمعت إسحاق بن عمر بن سليط يقول: سمعت حماد بن زيد يقول: سمعت أيوب يقول:
من أراد أن يعرف خطا معلمه فليجلس إلى غيره.
ونحوه في المعرفة والتاريخ 2/ 138، وحلية الأولياء 3/ 9.
وقال ابن حزم في مراتب العلوم ص77 [ضمن مجموع رسائله ج4]: [في وصايا لطالب العلم]
.. وسكنى حاضرة فيها العلم، ولقاء المتنازعين، وحضور المتناظرين = فبهذا تلوح الحقائق، فليس من تكلم عن نفسه وما يعتقده، كمن تكلم عن غيره، ليست الثكلى كالنائحة المستأجرة، ومن لم يسمع إلا من عالم واحد = أوشك أن لا يحصل على طائل، وكان كمن يشرب من بئر واحدة، ولعله اختار الملح المكدر، وقد ترك العذب، ومع اعتراك الأقران ومعارضتهم يلوح الباطل من الحق، ولا بد، فمن طلبه كما ذكرنا أوشك أن ينجح مطلبه، وأن لا ينفق سعيه، وأن يحصل في المدة اليسيرة على الفائدة العظيمة، ومن تعدى هذه الطريقة كثر تعبه، وقلت منفعته.
¥