" وإذا علمنا أن الراوي العدل قد أدرك من روى عنه من العدول، فهو على اللقاء والسماع، لأن شرط العدل القبول، والقبول يضاد تكذيبه في أن يسند إلى غيره ما لم يسمعه، إلا أن يقوم دليل على ذلك من فعله. وسواء قال (حدثنا) أو (أنبأنا)، أو قال (عن فلان)، أو قال (قال فلان) = كل ذلك محمول على السماع منه. ولو علمنا أن أحداً منهم يستجيز التلبيس بذلك كان ساقط العدالة، في حكم المدلس. وحكم العدل الذي قد ثبتت عدالته فهو على الورع والصدق، لا على الفسق والتهمةِ وسوءِ الظن المحرَّم بالنص، حتى يصح خلافُ ذلك. ولا خلاف في هذه الجملة بين أحدٍ من المسلمين، وإنما تناقض من تناقض في تفريع المسائل " أ. ه.
انظر أخي الكريم كيف يحكي الإمام ابن حزم ـ رحمه الله ـ الإجماع على قبول عنعنة المتعاصرين مع السلامة من التدليس
وقد حكى الإجماع ـ أيضاً ـ الإمام الحاكم في " معرفة علوم الحديث " (34):
" معرفة الأحاديث المعنعة وليس فيها تدليس: وهي متصلة بإجماع أئمة أهل النقل على تورُّع رواتها عن أنواع التدليس " أ. ه.
فإن قال قائل: لكن الحاكم لم يشترط المعاصرة، فالجواب حينئذ: هذا شرط بَدَهيٌّ لا يحتاج إلى تنصيص. فالكلام هنا عن (الاتّصال)، كيف يثبت (الاتّصالُ) في الحديث المعنعن؛ فاشترطوا لذلك أن لا يكون الراوي مدلسًا؛ فهل هناك حاجةٌ ـ بعد ذلك ـ إلى التنصيص على المعاصرة، وأنه يجب أن لا يكون الراويان غيرَ متعاصرَين؟!
وهناك غير الحاكم وابن حزم نقلوا الإجماع على قبول عنعنة المتعاصرين مع السلامة من التدليس انظر: " إجماع المحدثين على عدم اشتراط العلم بالسماع في الحديث المعنعن بين المتعاصرين " (93ـ 111).
5ـ قولك: (ويلزمه أن يعتبر كل من عاصر الرسول صلى الله عليه وسلم من المسلمين ولم نعلم هل رآه أو لم يره أنه صحابي وهذا باطل)، قلت: هذا اللازم غير لازم وحكاية كلامك يغني من الرد عليه ونسأل الله العافية.
لمعرفةالطرق التي تثبت بها الصحبة انظر: " الإصابة " (1/ 14) و " الباعث الحثيث " (1/ 517ـ 519).
6ـ الأفضل ننقل لك رأي الإمام الجبل مسلم من مقدمة صحيحه (1/ 130ـ نووي)، حيث قال:
" وذلك أن القولَ الشائِعَ المتفقَ عليه بين أهلِ العلم بالأخبار والروايات قديماً وحديثاً: أنَّ كُلَّ رجُلٍ ثقةٍ روى عن مثلهِ حديثاً، وجائزٌ ممكنٌ لهُ لقاؤُهُ والسماعُ منهُ، لكونِهِمَا جميعاً كانا في عصرٍ واحدٍ، وإنْ لم يأتِ في خبرٍ قطُ أنهمَا اجتمعا، ولا تشافَهَا بكلامٍ فالروايةُ ثابِتَةٌ، والحُجَّةُ بها لازمةٌ. إلا أنْ يكُونَ هناك دلالةٌ بينةٌ أنَّ هذا الراوي لمْ يلْقَ من روى عنْهُ أو لمْ يَسْمَعْ منهُ شيْئاً. فأما والأمرُ مبهمٌ، على الامْكَانِ الذَّي فسَّرْنَا فالروايةُ على السَمَاعِ أبدًا، حتى تكونَ الدلالةُ التي بَيَّنَّا ".
وقال في موضع آخر (1/ 137ـ نووي):
" وإنما كان تفقد منهم سماعَ رُاةِ الحديثِ ممنْ روى عنهم إذاكان الراوي ممن عُرِفَ بالتدليسِ في الحديث وشُهِرَ به، فحينئذٍ يبحثونَ عن سماعه في روايته، ويتفقدون ذلك منه؛ كي تَنْزاحَ عنهم علةُ التدليس. فمن ابتغى ذلك من غير مُدَلّسٍ على الوجهِ الذي زعم من حكينا قولهُ، فما سمِعْنَا ذلك عنْ أحدٍ ممن سَمَّيْنَا ولم نُسَمِ من الأئمةِ ".
ويقول ـ أيضاً ـ في معرض كلامه لمقالة صاحب المذهب المخالف (1/ 129ـ نووي):
" أنَّ كُلَّ إسنادٍ لحديثٍ فيهِ فُلانٌ عن فُلانٌ، وقد أحاطَ العلمُ بأنهما قد كاناَ في عصرٍ واحدٍ وجائزٌ أن يكون الحديثُ الذي رَوَى الرَّاوي عَمَّنْ روى عنه قد سَمِعَهُ مِنْهُ وشَافَهَهُ بِهِ ... ".
وقال عَقِبَ ذكره لأمثلةٍ للأسانيد الصحيحة مع عدم العلم بالسماع (1/ 143ـ نووي):
" إذ السَّمَاعُ لكلِ واحدٍ ممكنٌ من صاحبهِ غيرُ مُسْتَنْكَرٍ، لكونِهِمْ جميعاً في العصرِ الذي اتفقُوا فيه ".
فمن خلال هذه النقول يتبيّن أن الإمامَ مسلماً كان يشترطُ لقبول الحديث المعنعن ثلاثةَ شروط:
الأول: المعاصرة.
الثاني: أن لا يكون الراوي الذي عنعن مدلساً.
الثالث: أن لا يكون هناك ما يدل على عدم السماع.
فأما الشرطان الأولان فظاهران لا خلاف فيهما ولا غموض، وأما الشرط الثالث فبينه مسلم غاية البيان بقوله المتقدم: " إلا أن يكون هناك دلالةٌ بيّنةٌ أن هذا الراوي لم يلْقَ من روى عنه أو لم يسمع منه شيئًا " فهذا نصٌّ صريحٌ أن المعاصرة قد تحصل بين الراويين، لكن قد يمنع من الحكم بالاتصال ـ عند مسلم ـ وجودُ دلالةٍ واضحةٍ تنفيه وتمنعه، ومن أمثلة ذلك لو أن الراوي نَفَى عن نفسه السماعَ ممن عاصره، أو علمنا من أخبارهما أنهما لم يجتمعا في بلدٍ واحد قطّ، ولا كانت بينهما مكاتبةٌ أو إجازة فإن هذه من ابين الدلائل على عدم الاتصال. وحينها فلن يحكم مسلم ولا غيره بالاتصال. وقد تكون هناك دلائل أخرى مثل بُعْدِ البلدان، أو إدخال الوسائط مع وجود قرينة قوية تدل على أنه لم يسمع الحديث بعلو ونزول، ونحو ذلك من القرائن التي تشهد لعدم السماع وتُغلّب عدمَ حصوله.
قال مبارك: لعلك أخي الكريم تراجع الرابط المتقدم أو كتاب إجتماع المحدثين ففيه ما يقوي أن مذهب البخاري هو مذهب مسلم.
ما نُسب إلى الإمام الجبل البخاري من اشتراط العلم بالسماع أو اللقاء لم يصرح به في " صحيحه " ولا خارج " صحيحه " إنما هو فهم من بعض العلماء من خلال دراسة الصحيح، وهذا الفهم عرضة للخطأ والصواب بخلاف ما نُسب إلى الإمام الجبل مسلم فهو مسطر في مقدمة كتابه " الصحيح " فهو حينئذٍ أولى بالقبول والاتباع لاسيما ادعى البعض الإجماع على مذهب مسلم.
¥