راويه لشيخه فيه؛ فكان ذلك واردا عليه ". (النكت2/ 598).
يقرر الحافظ هذا الدليل، ولو في حديث واحد فقط، ثم هو نفسه
يعترف بوجود هذا الدليل الذي يتم لمسلم به النقض والالزام!!!
يقول الحافظ: " ومسألة التعليل وعدم اللِّحاق: قلَّ أن تقع في البخاري بخصوصه؛ لأنه معلوم أن مذهبه عدم الاكتفاء في الإسناد المعنعن بمجرد إمكان اللقاء ". (النكت 1/ 383).
فانتبه لقوله: " قلَّ "!!!
وسنترك الإجمال إلى البيان، بضرب أمثلة تدل على اكتفاء البخاري في صحيحه بالمعاصرة:
المثال الأول: حديثا أبي عبدالرحمن السلمي عن عثمان بن عفان
رضي الله عنه، الأول حديث: " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " (رقم 5027)، والثاني: حديث حصار عثمان، ومافيهمن قصة حفر بئر رومة
وتجهيز جيش العسرة (رقم 2778).
أخرجهما البخاري في صحيحه: مع نفي كُلٍّ من شعبة وابن معين
سماع أبي عبدالرحمن السلمي من عثمان رضي الله عنه، ومع قول
أبي حاتم الرازي: " روى عنه ولم يذكر سماعا " ورضي الإمام أحمد عن
نفي شعبة لسماعه من عثمان. (المراسيل لابن أبي حاتم 106 ـ108
رقم 382 ـ 387).
فيقول الحافظ في (الفتح) مدافعا: " لكن ظهر لي أن البخاري اعتمد في وصله وفي ترجيح لقاء أبي عبدالرحمن لعثمان على ماوقع في رواية شعبة عن سعيد بن عبيدة من الزيادة، وهي أن أبا عبدالرحمن أقرأ من زمن عثمان إلى زمن الحجاج، وأن الذي حمله على ذلك هو الحديث المذكور؛ فدل ذلك على أنه سمعه في ذلك الزمن. وإذا
سمعه في ذلك الزمن، ولم يوصف بالتدليس، اقتضى ذلك سماعه ممن عنعنه عنه، وهو عثمان.
ولاسيما ماشتهر بين القُرّاء: أنه قرأ القرآن على عثمان، وأسندوا
ذلك عنه من رواية عاصم بن أبي النجود وغيره.
فكان هذا أولى من قول من قال: إنه لم يسمع منه" (الفتح8/ 694)
فهنا يعترف الحافظ أن البخاري إنما كان اعتماده في تصحيح حديثين لأبي عبدالرحمن السلمي عن عثمان رضي الله عنه على المعاصرة وحدها!!
وهذا يكفينا من أشد العلماء دفاعا عن صحيح البخاري، وابلغهم
قناعة بنسبة شرط العلم باللقاء إليه!!
وأما ماذكره الحافظ من مسألة القراءة، فالحافظ نفسه لم يزعم أن
البخاري اعتمد عليها في تصحيحه لحديث السلمي عن عثمان رضي الله
عنه. والظاهر أن الحافظ لم يزعم هذا الزعم؛ لأنه كان يعلم أن إسناد ذلك لايثبت.
(انظر: العلل للدارقطني 3/ 60 رقم 284، وسير أعلام النبلاء للذهبي4/ 268، 270 ـ 271،وموقف الإمامين لخالد الدريس 119ـ120).
وهنا أنبه إلى أن حديثي أبي عبدالرحمن السلمي عن عثمان رضي
الله عنه، وإن لم نعلم بلقائه، إلا أن تصحيحيهما بناء على الاكتفاء بالمعاصرة هو المتوجِّه، أو له وجهٌ قويٌ في أقل تقدير
المثال الثاني: حديث عروة بن الزبير، عن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: " إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك، والناس يصلون " (صحيح البخاري رقم1626).
ذكره الدارقطني في (التتبع)، وقال: " هذا مرسل "، وبين أنه
رُوي من طريق عروة عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة. (التتبع
للدارقطني 246ـ 247 رقم 107).
وقال الطحاوي في (بيان مشكل أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم): " عروة لا نعلم له سماعا من أم سلمة " (شرح مشكل الآثار
للطحاوي 9/ 141).
فحاول الحافظ الدفاع عن ذلك بثلاثة أمور:
الأول: أنه قد جاء في رواية الأصيلي لصحيح البخاري ذكر زينب بنت
أبي سلمة بين عروة وأم سلمة في هذا الحديث من هذا الوجه؛ إلا أن
الحافظ بين أن ذكر زينب خطأ في رواية الأصيلي (1). فلاحجة فيها، حتى عند الحافظ.
الثاني: أن البخاري اعتمد رواية مالك عن محمد بن عبدالرحمن بن
نوفل عن عروة عن زينب عن أم سلمة (2)، التي أخرجها البخاري قبل
رواية هشام بن عروة عن ابيه عن أم سلمة بإسقاط زينب من إسنادها؛ أي أن البخاري أخرجها متابعة. مع اعتراف الحافظ أن لفظ الروايتين مختلف، بل قد رجح الحافظ أنهما حديثان مختلفان: أحدهما في طواف الإفاضة يوم النحر، والآخر في طواف الوداع. بل يظهر أن البخاري كان معتمدا على رواية عروة عن أم سلمة؛ لأنه أورد إسناد حديث عروة عن زينب عن أم سلمة، ثم لم يذكر لفظه، وأحال على لفظ حديث عروة عن أم سلمة، وأورده بإسناده ومتنه كاملا.
إذن فهذا الحديث داخل في أصل موضوع كتاب البخاري، الذي يشترط فيه الصحة.
الثالث: يقول الحافظ: " مع أن سماع عروة من أم سلمة ليس بمستبعد " (3). ويقول: " وسماع عروة من أم سلمة ممكن، فإنه
أدرك من حياتها نيفا وثلاثين سنة، وهو معها في بلد واحد " (4).
فعاد الحافظ إلى الاكتفاء بالمعاصرة!!!
ولذلك تعقبه محقق (التتبع) للدارقطني (وهو الشيخ مقبل بن هادي) بقوله: " أقول: البخاري يشترط تحقق اللقاء، فهل تحقق؟ والظاهر عدم تحققه، إذ لو تحقق لصرح به الحافظ " (5).
الحواشي:
1ـ انظر: تقييد المهمل لأبي علي الغساني (2/ 608 ـ 610)،
2ـ صحيح البخاري (رقم 1619، 1626،1633).
3ـ هدي الساري (377).
4ـ فتح الباري (3/ 569).
5ـ التتبع للدارقطني ـ حاشية التحقيق ـ (247).
¥