تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

@ ومما يدلِّل على هذا أنه قد تقدَّم أنَّ الإنزال قد يكون من الله وقد يحصل من الشياطين؛ قال تعالى: ((هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ)).

وقال تعالى أيضاً: ((ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ)).

@ وعليه .. فمن جزم بأن الله هو الذي أنزل هذا الذي أُنزِلَ (ولم يُذكَر ما هو؟!) على الملكين فيطالب بالدليل، وخاصة مع الإشكالات القوية الواردة عليه مما أشار الأخ رضا صمدي إليها؛ من تنافي ذلك مع كون الله لا يأمر بالكفر.

وبما تقدَّم في تعقيبي السابق بأنَّ الله لاينزِّل إلاَّ خيراً محضاً، والشياطين هم الذين ينزلون الكفر على أوليائهم.

2 - الأمر الثاني: من تأمل الآية أيضاً يلاحظ أنَّ الله تعالى قال: ((ولكن الشياطين يعلمون الناس السحر (وما أنزل) على الملكين)).

- فقوله: (وما أُنِزَل) فيها تنبيهات:

الأولى: أنَّ لفظة (ما) ههنا موصولية؛ فيصير المعنى: والذي أنزل على الملكين.

وليست نافية قطعاً؛ لأن سياق الآية من سباق ولحاق لا يساعد على ذلك!

@ وبيان ذلك: أننا لو جعلنا (ما) نافية، فقلنا إن معناها النفي؛ فيكون المعنى هكذا: ولكن الشياطين كفروا لتعليمهم الناس السحر، والسحر لم ينزلَ على الملكين = لكان في ذلك إشكال مع قوله عقيبه مباشر: (وما يعلمان من أحدٍ حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما).

@ والقرآن نزل بكلام عربي مبين.

فتثنية الأفعال في قوله (يعلمان)، (حتى يقولا) ينصرف إلى الملكين (أقرب مذكور) لا إلى الشياطين (وهم جمع).

وكذا الأمر في قوله: (فيتعلمون منهما) وها تثنية أيضاً يعود لأقرب مذكور.

@ فإذن ... نخلص من التحليل السابق إلى أنَّ معنى (وما أنزلَ على الملكين) يعني: (والذي أنزل على الملكين).

- التنبيه الثاني: سؤال أريد أن أصل إليه ههنا: ما هو الذي أنزل عليهما؟

@ عند أدنى تأمل ونظر يتبيَّن أنَّ الآية لم تذكر ما الذي أنزله الله على الملكين (هاروت وماروت).

أقول لم يبيِّن الله تعالى ماهو هذا الشيءُ المنزَّل عليهما، ففيه احتمالان:

فالأول: قد يكون السحر المعطوف عليه في قوله: (الشياطين كفروا يعلِّمون الناس السحر)؟ ويكون العطف للتخصيص بالذكر أو لغرض آخر.

والاحتمال الثاني: أنه شيء آخر غير السحر، لدلالة العطف المقتضي للمغايرة.

هذا جانب ...

والجانب الآخر .. لو قلنا إنه ليس هو من جنس السحر الذي أتت به الشياطين فهل هو كفرٌ كالسحر.

دلالة الآية تقوي هذا الاحتمال؛ فقد يكون كفراً أيضاً، وذلك لقوله: (وما يعلَّمان من أحدٍ حتى يقولا إنما نحن فتنةٌ فلا تكفر).

فلو لم يكن كفرً فلمَ يكفر هؤلاء بتعلُّمه؟

وههنا جوابٌ محتمل .. قد يكون كفراً باعتبار امآل.

بمعنى .. أنَّ هذه الفتنة التي جاء بها الملكان وليست سحراً (كفراً) قد لا تكون كفراً ابتداءاً؛ لكنها توصل للكفر وذريعة إليه، فقيل (فلا تكفر) باعتبار النظر للمآل.

@ و (قد) يقوِّي هذا بالأصل المعلوم من كون الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون.

فلم يفعل الملكان هاروت وماروت إلاَّ ما أُمرا به، وهل لأحدٍ أن يأمرهما غير الله تعالى شأنه.

ثم كما تقرَّر غير مرَّةٍ أنَّ الله لا يأمر بالكفر، قال في كتابه: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ).

@ فهل يمكن لأن يقال: إنه يحتمل أن الملكين – هاروت وماروت – أمرهما الله بفتنة عباده بما ليس كفراً، لكنه يوصل للكفر.

ونظير هذا قصة الثلاثة من بني إسرائيل – الأعمى والأقرع والأبرص – الذين امتحنهما الملك فكفر الأولان بكفرانهم نعمة الله وسخط الله عليهما.

@ لكن هذا يُوْرَد عليه إشكال، وهو أنَّ الذي وقع في قصة هؤلاء الثلاثة ليس من تعليم الملك لهما بشيء باطل لا يجوز، بل مجرَّد امتحان بأفعالم هم.

فلا تصلح هذه القصة حجة في هذا الاحتمال.

@ تنبيه: بقي ههنا تنبيه أخير، وهو أنه لا دليل – صحيح أو صريح – لدينا بنفي أو إثبات الكفر على الملكين.

لكن ... المردُّ في التمسك بعموم النصوص الدالة على عصمتهم من مخالفة أمر الله وفعل ما يُؤمرون به، ومن أعظم المخالفة التي ينزهون عنها الكفر = يجعلنا لا نكفرهما إلاَّ بدليل صحيح صريح.

- الخلاصة: أقول ابتداءاً كما قيل: الله أعلم بمراد كتابه.

والذي أرتضيه لنفسي من فهم كتابه على ما سبق في التحليل = ما يلي:

1 - أنَّ الملكان ملكان حقيقة، لعدم الدليل النافي له.

2 - أننا لم نُعلَم ما الذي أُنزِلَ على الملكين ببابل هاروت وماروت، أسحرٌ هو أم غيره؟ ثم .. أكفر هو أو غيره!

3 - أنَّنا لم نُعلَم من الذي أنزل عليهما ذلك الكفر أو الموصل للكفر؛ آلله أم غيره.

وتقدَّم ترجيح أحد الاحتمالين بحسب توجيه الصحيح لهما.

4 - أنَّنا لم نُعْلَم ما مآل الملكين؛ هل كفرا أم لم يكفرا؟

لكن التمسك بعموم النصوص الواردة في عصمتهم من كل معصية تدلُّ على عدم كفرهما.

- وعليه .. فنمسك القول بالجزم عما أجمل ولم يفصَّل، ونبيَن ما تبيَّن دون تأويل إلاَ بدليل صحيح صريح لا إشكال فيه.

- وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجميعن ...

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير