1 - إن راوي الدليل جابر بن سمرة رضي الله عنه فهم منه الوضوء الشرعي وهو أعلم بمعنى ما سمع. ([119])
أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه ([120]) بسنده عن جابر بن سمرة قال:
(كنا نتوضأ من لحوم الإبل، ولا نتوضأ من لحوم الغنم).
2 - إن الأمر للوجوب ما لم يصرفه صارف، فإذا حمل الوضوء على غسل الفم واليدين اقتضى ذلك وجوبه، ولا قائل به. ([121])
3 - إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الوضوء في سياق الصلاة مبيناً حكم الوضوء والصلاة في هذين النوعين، والوضوء المقرون بالصلاة هو وضوؤها لا غير. ([122])
4 - إن السائل إنما جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم الوضوء الشرعي لا عن نظافة يديه وفمه بعد أكل لحم الإبل أو الغنم.
5 - (إن الأمر بالتوضؤ من لحم الإبل: إن كان أمر إيجاب امتنع حمله على غسل اليد والفم، وإن كان أمر استحباب امتنع رفع الاستحباب عن لحم
الغنم، والحديث فيه أنه رفع عن لحم الغنم ما أثبته للحم الإبل، وهذا يبطل كونه غسل اليد، سواء كان حكم الحديث إيجاباً أو استحباباً). ([123])
المناقشة الثالثة:
إن الأمر في الدليل محمول على الاستحباب، قال الإمام الماوردي في الحاوي ([124]) الكبير.
(… وهذا الحديث محمول على الاستحباب والإرشاد).
وأجيب بأن ظاهر الأمر الوجوب عند جمهور الفقهاء ([125])، ولا يجوز الخروج عن هذا الظاهر إلا بقرينة صارفة تكون في قوة الظاهر أو أقوى منه، ولم يذكر أصحاب هذا التأويل هذه القرينة الصارفة، فيبقى الأمر على أصله من الوجوب ([126])، بل إن هذا الأمر حفت به قرائن تؤيد الظاهر وتؤكده، وتمنع هذا التأويل، ومن هذه القرائن ما يلي:
1 - إن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن حكم الوضوء من لحم الإبل فأجاب بالأمر بالوضوء منه فلا يجوز حمله على غير الوجوب لأنه يكون تلبيساً على السائل لا جواباً ([127]).
2 - إن الحكم ذكر في جواب السائل، والحكم في مثل هذا لا يفهم منه إلا الإيجاب، كالوضوء من الصوت والريح ومس الذكر ([128]).
3 - إن الدليل فرق بين لحم الإبل ولحم الغنم، والنهي في لحم الغنم إنما أفاد نفي الإيجاب لا التحريم، فيجب أن يكون في لحم الإبل مفيداً للإيجاب ليحصل الفرق ([129]).
4 - إن الوضوء مستحب في لحم الغنم – ليخرج من خلاف من قال بوجوب الوضوء مما مست النار – وقد نفاه الدليل في لحم الغنم وأثبته في لحم الإبل، فكيف يحمل الأمر على الاستحباب ([130])؟.
5 - إن الدليل أثبت صفة في الإبل تقتضي الوضوء، والأصل في الأسباب المقتضية للوضوء أن نكون موجبة ([131]).
المناقشة الرابعة:
إن أكل لحم الإبل مما يغلب وجوده فلو جعل حدثاً لوقع الناس في الحرج ([132]).
ونوقش الدليل بالآتي:
1 - لا يسلم لكم أن جعل أكل لحم الإبل حدثاً يؤدي إلى الحرج، إذ الواقع ينفي ذلك لأن الإنسان لا يأكل في العادة لحم الإبل (أو غيره من
اللحوم) إلا مرة في اليوم أو مرتين على الأكثر، فإذا توضأ الإنسان بعد ذلك الأكل (مرة أو مرتين) فأين وجه الحرج؟.
2 - إن خروج البول حدثٌ بالإجماع يوجب الوضوء، وهو أكثر وجوداً من أكل لحم الإبل إذ الإنسان عادة ما يتبول أكثر من مرتين في اليوم، ومع ذلك لم يكن ذلك سبباً لإيقاع الناس في الحرج.
3 - إن المشقة المعتادة لا تسمى حرجاً، قال الإمام الشاطبي في الموافقات ([133]):
(… وأصل الحرج الضيق، فما كان من معتادات المشقات في الأعمال المعتادة فليس بحرج لغة ولا شرعاً).
وقال أيضاً: (… حيث تكون المشقة الواقعة بالمكلف في التكليف خارجة عن معتاد المشقات في الأعمال العادية، حتى يحصل بها فساد ديني أو دنيوي، فمقصود الشارع فيها الرفع على الجملة … ولذلك شرعت فيها الرخص مطلقاً.
وأما إذا لم تكن خارجة عن المعتاد، وإنما وقعت على نحو ما تقع المشقة في مثلها من الأعمال العادية، فالشارع وإن لم يقصد وقوعها فليس بقاصد لرفعها أيضاً، والدليل على ذلك أنه لو كان قاصداً لرفعها لم يكن بقاء التكليف معها، لأن كل عمل عادي أو غير عادي يستلزم تعباً وتكليفاً على قدره، قلَّ أو
¥