جلَّ، إما في نفس العمل المكلف به، وإما في خروج المكلف عما كان فيه إلى الدخول في عمل التكليف، وإما فيهما معاً، فإذا اقتضى الشرع رفع ذلك التعب كان ذلك اقتضاء لرفع العمل المكلف به من أصله، وذلك غير صحيح، فكان ما يستلزمه غير صحيح) ([134]).
المناقشة الخامسة:
إن هذه الأحاديث آخبار آحاد وردت فيما تعم به البلوى ويغلب وجوده ولا يقبل خبر الواحد في مثله ([135]).
وأجيب بأن جمهور الفقهاء والأصوليين ([136]) لا يسلمون بهذه القاعدة بل يرون أن أحاديث الآحاد يعمل بها فيما تغم به البلوى كما يعمل بها في غيره مادامت شروط الصحة قائمة.
إشكال ورده:
والإشكال هو:
أن الأمر في الحديث محمول على الإباحة، لأنه أمر بعد استئذان ([137]).
قال العلامة ابن اللحام في كتابه (القواعد والفوائد الأصولية):
(إذا فرعنا على أن الأمر المجرد للوجوب، فوجد أمر بعد استئذان فإنه لا يقتضي الوجوب، بل الإباحة، ذكره القاضي محل وفاق، قلت: وكذلك ابن عقيل ….
إذا تقرر هذا فلا يستقيم قول القاضي وابن عقيل في استدلالهما على نقض الوضوء بلحم الإبل بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم، لما سئل عن التوضي من لحوم الإبل فقال: (نعم، فتوضأ من لحوم الإبل).
ومما يقوي الإشكال أن في الحديث الأمر بالصلاة في مرابض الغنم، وهو بعد سؤال، ولا يجب بلا خلاف …) ([138]).
ثم أجاب ابن اللحام عن هذا الإشكال – بصيغة التمريض – بقوله:
(وقد يقال: الحديث إنما ذكر فيه بيان وجوب ما يتوضأ منه، بدليل أنه لما سئل عن الوضوء من لحوم الغنم قال: (إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا
تتوضأ) مع أن التوضي من لحوم الغنم مباح، فلما خير في لحم الغنم، وأمر بالوضوء من لحوم الإبل دل على أن الأمر ليس هو لمجرد الإذن بل للطلب الجازم، والله أعلم) ([139]).
قلت: ويمكن أن يعقب على هذا الإشكال بالتالي:
إن الأصوليين مختلفون في دلالة الأمر ([140]) بعد الاستئذان فإذا كان بعضهم يذهب إلى الإباحة فإن الكثير منهم يقرر الوجوب ([141]).
1 - إن جعل العلامة ابن اللحام الحديث (أتوضأ من لحوم الإبل؟ …) من باب الأمر بعد الاستئذان غير ظاهر لي لأن الاستئذان طلب إباحة الشيء وإجازته، قال في المفردات ([142]): (والإذن في الشيء إعلام بإجازته والرخصة فيه).
وقال في المصباح المنير ([143]): (أذنت له في كذا: أطلقت له فعله).
وقال في لسان العرب ([144]) (أذن له في الشيء إذنا وأذيناً: أباحه له).
أقول: وهذا يقتضي – كما هو ظاهر – أن الشيء كان قبل الاستئذان محظوراً على المستأذن، أي أن الأمر بعد الاستئذان هو في معنى الأمر بعد
الحظر، ولذا رأينا الأصوليين يقرنون ([145]) بين الأمر بعد الاستئذان والأمر بعد الحظر في الحكم.
أما ما جاء في الحديث (أتوضأ من لحوم الإبل؟ …) فليس استئذاناً لأنه ليس طلباً للإباحة أو الإطلاق في أمر قد تقرر حظره على السائل قبل، بل هو أمر بعد سؤال السائل النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم الوضوء من لحم الإبل، والأمر بعد السؤال يقرره مقتضى السؤال أهو عن الوجوب أو الإباحة أو الإجزاء؟ كما قرر ذلك الإمام ابن قدامة ([146]) في المغني بقوله:
(… ومنها أن السائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل يفعل ذلك أم
لا؟ وجوابه يختلف باختلاف مقتضى سؤاله، فإن كان مقتضاه السؤال عن الإباحة فالأمر في جوابه يقتضي الإباحة، وإن كان السؤال عن الاجزاء فأمره يقتضي الاجزاء … وإن كان سؤالهم عن الوجوب فأمره يقتضي الوجوب كقولهم (أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: توضؤوا من لحوم الإبل …).
القائلون بعدم النقض:
ذهب الحنفية ([147])، والمالكية ([148])، والشافعية في الصحيح ([149]) عندهم، والزيدية ([150])، إلى أن أكل لحم الإبل لا ينقض الوضوء، وهو رواية ([151]) عن الإمام أحمد، وقول سويد بن غفلة ([152])، ومجاهد ([153])، وعطاء ([154]) بن أبي رباح،
وطاوس ([155])، وسفيان الثوري ([156])، وإبراهيم النخعي ([157])، والليث بن سعد ([158])، والأوزاعي ([159]).
أدلة القائلين بعدم النقض:
¥