(… وقد جاء أن على ذروة كل بعير شيطان ([203])، وجاء أنها جن خلقت من جن ([204])، ففيها قوة شيطانية، والغاذي شبيه بالمغتذى، ولهذا حرم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير، لأنها دواب عادية، فالا غتذاء بها يجعل في طبيعة المغتذي من العدوان ما يضره في دينه، فإذا اغتذى من لحوم الإبل وفيها القوة الشيطانية، والشيطان خلق من نار، والنار تطفأ بالماء، وهكذا جاء الحديث، ونظيره الحديث الآخر ([205]) (إن الغضب من الشيطان فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)، فإذا توضأ العبد من لحوم الإبل كان في وضوئه ما يطفئ تلك القوة الشيطانية فتزول تلك المفسدة).
4 - إنه قياسي طردي ([206]) فاسد، قال الإمام ابن قدامة في المغني ([207]):
(وقياسهم فاسد، فإنه طردي لا معنى فيه، وانتفاء الحكم في سائر المأكولات لانتفاء المقتضى لا بكونه مأكولاً فلا أثر لكونه مأكولاً ([208]) ووجوده كعدمه).
الدليل الثامن:
إن أكل لحم الإبل نوع من الانتفاع به، والانتفاع بلحم الإبل من بيع وغيره لا يوجب الوضوء.
قال القاضي عبدالوهاب في الإشراف ([209]): (ولأن الأكل نوع من الانتفاع به فلم يجب به وضوء، أصله البيع وغيره).
وأجيب بالآتي:
1 - ما سبق من أن الحكم تعبدي ولا مدخل للقياس فيه.
2 - ما سبق من أن القياس هنا فاسد لمصادمته للنص الخاص.
3 - الفرق الظاهر بين الانتفاع بالبيع والإجارة والهبة ونحوها وبين الانتفاع بالأكل، فقد أباح الشرع للرجل الانتفاع ببيع الذهب والحرير ولم يبح له الانتفاع بلبسهما، وأباح للمسلم الانتفاع بجلد الميتة بعد دبغه ولم يبح له الانتفاع بأكل لحم الميتة.
• • •
الخاتمة:
بعد هذا العرض لآراء الفقهاء وأدلتهم ومناقشاتهم يتضح لنا رجحان القول بنقض الوضوء من أكل لحم الإبل للآتي:
1 - صحة أدلة القائلين بالنقض وظهور دلالتها على محل الحكم.
2 - ضعف أدلة القائلين بعدم بالنقض لورود المناقشات القوية عليها.
3 - ضعف المناقشات الواردة على أدلة القائلين بالنقض لورود الأجوبة القوية عليها.
4 - فعل ذلك من عامة الصحابة أو أكثرهم على ما بينا سابقاً ([210]).
5 - إن أدلة النقض النقلية خاصة وأدلة عدم النقض النقلية عامه، والخاص مقدم على العام كما هو مقرر في الأصول ([211]).
6 - إن أدلة النقض قولية وأدلة عدم النقض فعلية، والقول مرجح على الفعل ([212]).
7 - إن القول بالنقض إثبات للحكم والقول بعدم النقض نفي، والمثبت مقدم على النافي ([213]).
8 - إن القول بالنقض موافق للقياس الصحيح على ما بينا سابقاً ([214]).
9 - إن القول بالنقض هو الأحوط للمسلم وأبرأ لذمته ([215])، خاصة في مجال العبادات.
هذا ما ترجح عندي حسب جهدي المتواضع، والمسألة كما قلت خلافية، وكل اجتهاد قابل للصواب والخطأ، وترجيح أحد القولين لا يقلل من قيمة القول الآخر ولا يعطي الحق في الإنكار على من أخذ به كما هو مقرر عند الفقهاء والأصوليين.
الحواشي والتعليقات
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 2/ 99 - 100.
(2) انظر لسان العرب 1/ 194 وما بعدها والصحاح 1/ 80 - 81 والمصباح المنير 2/ 663 والمغرب في ترتيب المعرب 2/ 358 - 359 ومعجم مقاييس اللغة 6/ 119 والمعجم الوسيط 2/ 1038.
(3) البناية على الهداية 1/ 78 وانظر البحر الرائق 1/ 11.
(4) مواهب الجليل 1/ 180.
(5) نهاية المحتاج 1/ 139 وانظر مغني المحتاج 1/ 47.
(6) كشاف القناع 1/ 82 وانظر مطالب أولي النهى 1/ 98.
(7) انظر لسان العرب 7/ 242 وما بعدها والمصباح المنير 2/ 621 - 622 وأساس البلاغة 470 ومعجم مقاييس اللغة 6/ 470 - 471 والمعجم الوسيط 2/ 947.
(8) 2/ 134 وانظر العناية 1/ 32 والبناية 1/ 194 والبحر الرائق 1/ 29 وحاشية ابن عابدين 1/ 134.
(9) 1/ 83 وانظر الخرشي على خليل 1/ 151 والعدوي على الخرشي 1/ 151 ومواهب الجليل 1/ 290.
(10) 1/ 54 وانظر حاشية أبي الضياء على نهاية المحتاج 1/ 94 ومغني المحتاج 1/ 31.
(11) 1/ 155 وانظر معونة أولي النهى 1/ 336 ومطالب أولي النهى 1/ 138 وكشاف القناع 1/ 122.
(12) انظر مواهب الجليل 1/ 290 والخرشي على خليل 1/ 151 والعدوي على الخرشي 1/ 151 وحاشية البناني على الزرقاني 1/ 38 وحاشية البيجوري 1/ 68 ومغني المحتاج 1/ 31 وحاشية الجمل 1/ 62 وإعانة الطالبين 1/ 57 وحاشية أبي الضياء 1/ 94 وكشاف القناع 1/ 122.
¥