فكل منهما له معنى يخصه، فلا يصلح تعدية حكم أحدهما إلى الآخر، ويمكن أن يتضح ذلك أكثر من خلال تعريف كلٍ منهما.
عرف الزركشي الضرورة بقوله: "هي بلوغه حداً إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب". وقيل في تعريفها أيضاً إنها: "الخوف على نفس من الهلاك علماً أو ظناً".وتعاريف العلماء تدور حول هذا.
أما الحاجة فهي أقل من الضرورة، ولذلك عرفها الزركشي بالمثال فقال: "الحاجة: كالجائع الذي لو لم يجد ما يأكل لم يهلك غير أنه يكون في جهد ومشقة، وهذا لا يبيح المحرم".
إذاً يوجد فروق جوهرية بين الحاجة والضرورة، من أبرزها أن الحاجة لا تبيح المحرم، بخلاف الضرورة، كما نبّه على ذلك الزركشي فيما سبق،
وأيضاً الضرورة لابد فيها من خوف التلف، بينما الحاجة يكتفى فيها بوجود الحرج والمشقة، وإن لم يوجد خوف الهلاك. أضف إلى ذلك أن من شروط وضوابط الضرورة أن يتعين على المضطر مخالفة الأوامر والنواهي الشرعية، بمعنى ألا يوجد وسيلة أخرى لدفع الضرر إلا المخالفة الشرعية، وهذا لا يشترط بالنسبة للحاجة.
والآن ومع هذه الفروق كيف تنزل الحاجة منزلة الضرورة؟!
لذلك ذهب الأكثر من العلماء إلى أن لكلٍ من الحاجة والضرورة أحكاماً تخصها. ثم قد يكون في تصحيح هذه القاعدة واستعمالها فتحاً لباب التلاعب، والتهاون بالمحذورات الشرعية بحجة أن الضرورة تبيح المحذورات، والحاجة تنزل منزلة الضرورة، فينبني على ذلك مفاسد كبيرة، والله تعالى أعلم.
الوجه الثاني:
أن هذه القاعدة ـ على القول بالأخذ بها ـ لها من الضوابط والشروط ما لا يمكن معها القول بجواز المساهمة في شركات تتعامل بالربا بأخذ الفائدة الربوية أو إعطائها.
والخلاصة:
أن هذه القاعدة لا يعمل بها في المنصوص على تحريمه، والربا منصوص على تحريمه، بل هو من كبائر الذنوب كما هو معلوم، فهذا النوع من الشركات التي تتعامل بالربا لا تصلح لتطبيق هذه القاعدة فيها، والله أعلم.
دليلهم الثالث:
جواز التصرف في المال المختلط، إذا كان الجزء الحرام هو القليل والمباح هو الكثير، وهذا الحكم أخذ به أكثر العلماء، وتعضده الأدلة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الحرام إذا اختلط بالحلال فهذا نوعان:
أحدهما: أن يكون محرماً لعينه كالميتة، فإذا اشتبه المذكي بالميتة حَرُما جميعاً.
الثاني: ما حرم لكونه غصباً، أو المقبوض بعقود محرمة كالربا والميسر، فهذا إذا اشتبه واختلط بغيره لم يحرم الجميع، بل يميز قدر هذا من قدر هذا، فيصرف هذا إلى مستحقه، وهذا إلى مستحقه".
وذكر ابن القيم نحواً من هذا، وأنه إذا خالط المال درهم حرام أو أكثر وهو
محرم لكسبه لا لعينه فإنه يخرج مقدار الحرام، ويحل له الباقي بلا كراهة، ثم قال: "وهذا هو الصحيح في هذا النوع، ولا تقوم مصالح الخلق إلا به".
وذكر مثل ذلك الكاساني وابن نجيم والعز بن عبد السلام والزركشي، ذكروا جميعاً هذا المعنى، أنه إذا اختلط الدرهم أو أكثر الحرام بالحلال الكثير ولم يتميز، فيجوز الشراء والبيع
وتخرج مسألة تداول السهم على ذلك، فإن جزءً يسيراً هو الحرام في الأسهم والباقي مباح، وأصل الحرمة جاءت من أخذ التسهيلات الربوية أو إعطائها.
مناقشة هذا الدليل:
وهذا أيضاً من الأدلة التي نُزلت في غير محلها، ذلك أنه فرق بين من يشتري سهماً في شركة، فيصبح بهذا الشراء شريكاً في هذه الشركة، وبين من يشتري سلعةً، أو يصارف بنقدٍ من شخص اختلط في ماله الحلال بالحرام، وغالبه من الحلال، فهاتان صورتان مختلفتان.
وكلام الفقهاء الذين ذكروا هذا المبدأ، وهو صحة معاملة من اختلط ماله بالحرام القليل المحرم لكسبه لا لعينه يستعمل في الصورة الثانية دون الأولى.
كذلك أيضاً فرق بين المساهم في شركة، وبين من أراد أن يخرج الحرام من ماله ليطيب له، توبة عن الكسب الحرام، فجواز التصرف في المال المختلط يصح في الصورة الثانية دون الأولى.
¥