وهذا هو الذي يفهم من كلام شيخ الإسلام وابن القيم الذين استدل بهما القائل بالجواز، فشيخ الإسلام يقول: "يميز قدر هذا من قدر هذا، فيصرف هذا إلى مستحقه وهذا إلى مستحقه"،وابن القيم يقول: "يخرج مقدار الحرام ويحل له الباقي بلا كراهة"، فهذا الكلام في شخص أراد أن يتوب، فإذا أراد ذلك فهكذا يفعل ليطيب له باقي ماله، وليس الكلام في شخص مستمرٍ في التعامل بما لا يجوز من طرق الكسب، وإلا كان هذا تسويغاً أو شبه تسويغ للمكاسب الفاسدة ببيان طرق التخلص منها، وشيخ الإسلام وابن القيم من أبعد الناس عن هذا، لكن جاء هذا من تنزيل كلامهما على غير محله.
وكذلك في كلام الزركشي ما يدل على ذلك فهو يقول: "إنه إذا اختلط درهم حرام بدراهم حلال فصل قدر الحرام، وصرفه لمن هو له، والباقي له "، فهل يتصور هذا في شخص مستمر بالمعاملة المحرمة، لاشك أن هذا ليس مراداً، وإنما الكلام في حق التائب.
ومن تأمل هذا الموضع حق تأمله ظهر له أن الفقهاء لا يقولون بجواز استمرار المسلم في معاملات مخالفة للشريعة، إنما يريدون جواز معاملة المسلم لغيره ممن اختلط الحلال بالحرام في ماله إذا كان الأمر ينتهي بانتهاء المعاملة، والله أعلم
دليلهم الرابع:
الأخذ بقاعدة "ما لا يمكن التحرز عنه فهو عفو".
وقد فرع الفقهاء على هذه القاعدة عدداً من الفروع، منها: العفو عن يسير النجاسات، وأن الوكيل لا يضمن ما يتغابن الناس بمثله عادة؛ لأنه لا يمكن التحرز عنه، وكذلك يعفى عن الغرر الذي لا يمكن الاحتراز عنه، كشراء الحامل مع احتمال أن الحمل واحد أو أكثر، وكذلك شراء الشاة التي في ضرعها لبن.
ويمكن تخريج مسألة تداول الأسهم على ذلك؛ لأنها تعتبر بالنسبة لاقتصاد الدول حاجة ملحة، لا غنى لأي دولة عنها، وكذلك هي حاجة لابد منها بالنسبة للأفراد، ليتمكنوا من استثمار مدخراتهم.
مناقشة هذا الدليل:
أن الفرق بين مراد الفقهاء من هذه القاعدة ومراد المستشهد بها على الجواز كبير جداً، فإن الفقهاء يستعملون هذه القاعدة في أمور يشق ويصعب على الإنسان أن يتحرز عنها، وفي تكليفه التحرز عنها تكليف بما يدخل الحرج والعنت على المسلمين في أحوالهم الخاصة وفي معاملاتهم مع سائر الناس، يظهرذلك من خلال أمثلة الفقهاء المذكورة في الدليل الرابع، بينما لا نجد الممتنعين عن المساهمة في هذه الشركات أصابهم مشقة وحرج من ذلك.
ثم ألا يوجد من سبل استثمار المال وتنميته المباحة المشروعة ما يغني عن الطرق المشبوهة أو المحرمة؟
إن في هذا القول من تحجير الواسع شيئاً كثيراً كأن المستدل بهذه القاعدة يقول:
إن الاستثمار والتجارة انحصرت في الشركات المساهمة، بحيث إن من لم يستثمر فيها لا يجد سبيلاً سواها، ويدخل عليه العنت والحرج؛ لأن القاعدة تقول "ما لا يمكن التحرز عنه"، فهذا هو الذي يفهم من كلمة (ما لا يمكن) الواردة في القاعدة، وهذا فيه من المجازفة والمبالغة شيء كثير، ثم لو سلمنا جدلاً أنه لابد من شركات المساهمة "فلن يجري التسليم بضرورة وإلحاح الإقراض والاقتراض الربوي، وصبغهما بصبغة ما لا غنى عنه، ولابد منه، ولا مناص عنه
دليلهم الخامس:
أن القول بتحريم المساهمة في هذا النوع من الشركات يؤدي إلى انسحاب المسلمين من الحياة الاقتصادية في المجتمع لينفرد بها غير المسلمين أو فساق المسلمين، فيديرونها دون مراعاة لأحكام الشريعة.
دليلهم السادس:
أن عدد الشركات التي لا تعتمد على التمويل القائم على الربا قليل جداً، ومحدودية الفرص الاستثمارية يؤدي إلى إلحاق الضرر بالمؤسسات المالية الإسلامية.
دليلهم السابع:
وجود فائض كبير من الأموال بدون استثمار لدى المؤسسات المالية الإسلامية يلحق بها الضرر؛ لتحملها التكلفة الناشئة عنها.
مناقشة الأدلة الخامس والسادس والسابع:
وهي من وجهين:
الوجه الأول:
أن هذه الأدلة تقوم على مراعاة المصالح والمفاسد، فالمستدل بها يقول إن مفاسد منع الاشتراك في هذه الشركات تزيد على المصالح، وفي المقابل مصالح الاشتراك أكثر من المفاسد، وذلك بأوجه المصلحة المذكورة في هذه الأدلة.
وإذا كانت المسألة مقارنة بين المصالح والمفاسد، أو محاولة الخروج برأي صحيح في مسألة اختلطت فيها المصالح بالمفاسد،
فحينئذ ما علينا سوى أن نقارن بين المفاسد والمصالح.
¥