وإنما يتبين كونه غير قابل بعد قيام الحجة عليه بالرسول؛ إذ لو عذبه بكونه غير قابل لقال: لو جاءني رسول منك لامتثلت أمرك؛ فأرسل إليه رسوله فأمره ونهاه؛ فعصى الرسول بكونه غير قابل للهدى؛ فعوقب بكونه غير فاعل، فحق عليه القول: أنه لا يؤمن ولو جاءه الرسول؛ كما قال تعالى: ((وكذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون))، حق عليه العذاب؛ كقوله تعالى: ((وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار)).
فالكلمة التي حقت كلمتان: كلمة الإضلال، وكلمة العذاب؛ كما قال تعالى: ((ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين))، وكلمته سبحانه إنما حقت عليهم بالعذاب بسبب كفرهم؛ فحقت عليه كلمة حجته، وكلمة عدله بعقوبته ... )).
• وقال رحمه الله أيضاً في شفاء العليل (ص/79):
(( ... فصل: المرتبة الثانية من مراتب الهدايه: هداية الإرشاد والبيان للمكلفين.
وهذه الهداية لا تستلزم حصول التوفيق واتباع الحق؛ وإن كانت شرطاً فيه أو جزء سبب.
وذلك لا يستلزم حصول المشروط والمسبب؛ بل قد يتخلف عنه المقتضى، إما لعدم كمال السبب، أو لوجود مانع.
ولهذا قال تعالى: ((وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى))، وقال: ((وما كان ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون)).
فهداهم هدى البيان والدلالة فلم يهتدوا فأضلهم عقوبة لهم على ترك الاهتداء أولاً بعد أن عرفوا الهدى، فأعرضوا عنه، فأعماهم عنه بعد أن أراهموه.
وهذا شأنه سبحانه في كل من أنعم عليه بنعمة فكفرها؛ فإنه يسلبه إياها بعد إن كانت نصيبه وحظه؛ كما قال تعالى: ((ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم))، وقال تعالى عن قوم فرعون: ((وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً))؛ أي: جحدوا بآياتنا بعد أن تيقنوا صحتها، وقال: ((كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين)).
وهذه الهداية هي التي أثبتها لرسوله؛ حيث قال: ((وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم))، ونفى عنه ملك الهداية الموجبة وهي هداية التوفيق والإلهام؛ بقوله: ((إنك لا تهدي من أحببت)) ... )) إلى أن قال: (( ... فإن قيل: كيف تقوم حجته عليهم وقد منعهم من الهدى، وحال بينهم وبينه؟
قيل: حجته قائمة عليهم بتخليته بينهم وبين الهدى، وبيان الرسل لهم، وإراءتهم الصراط المستقيم؛ حتى كانهم يشاهدونه عياناً، وأقام لهم أسباب الهداية ظاهراً وباطناً، ولم يحل بينهم وبين تلك الأسباب.
ومن حال بينه وبينها منهم؛ بزوال عقل أو صغر - لا تمييز معه -، أو كونه بناحية من الأرض لم تبلغه دعوة رسله = فإنه لا يعذبه؛ حتى يقيم عليه حجَّته.
فلم يمنعهم من هذا الهدى ولم يحل بينهم وبينه.
نعم .. قطع عنهم توفيقه ولم يرد من نفسه أعانتهم، والإقبال بقلوبهم إليه، فلم يحل بينهم وبين ما هو مقدور لهم.
وإن حال بينهم وبين ما لا يقدرون عليه - وهو فعله ومشيئته وتوفيقه - فهذا غير مقدور لهم، وهو الذي منعوه، وحيل بينهم وبينه.
فتأمل هذا الموضع وأعرف قدره، والله المستعان)).
• وقال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله في منهاج الحق والاتِّباع (ص/68): ((الذي يظهر لي – والله أعلم – أنَّها لا تقوم الحجة إلاَّ بمن يُحسِنُ إقامتها، وأما من لا يحسن إقامتها؛ كالجاهل الذي لا يعرف أحكام دينه، ولا ماذكره العلماء في ذلك؛ فإنه لا تقوم به الحجَّة)).
••• مرَّة أخرى أقول: يتبع - إنشاء الله -، ولكن اصبروا عليَّ قليلاً ...
ـ[أبو عمر السمرقندي]ــــــــ[17 - 10 - 02, 12:26 ص]ـ
• وقال الإمام ابن حزم رحمه الله في الإحكام (1/ 67): ((وكل ما قلناه أنه يفسق فاعله أو يكفر بعد قيام الحجة = فهو مالم تقم عليه الحجة عليه معذور مأجور، وإن كان مخطئاً، وصفة قيام الحجة عليه: أن تبلغه فلا يكون عنده شيءٌ يقاومها، وبالله التوفيق)).
• وقال الشيخ محمد بن عبدالوهَّاب رحمه الله كما في مجموعته، الفتاوى (3/ 12 - 13): ((فإنَّ الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية، أو يكون ٍ ذلك في مسألةٍ خفيّضةٍ؛ مثل الصرف والعطف، فلا يكفر حتى يعرَّف.
أما أصول الدين التي اوضحها الله في كتابه فإنَّ حجَّة الله هي القرآن؛ فمن بلغه فقد بلغته الحجة.
لكن أصل الإشكال أنكم لم تفرِّقوا بين قيام الحُجَّة، وفهم الحجَّة؛ فإنَّ الكفَّار والمنافقين لم يفهموا الحجَّة الله مع قيامها عليهم؛ كما قال تعالى: ((أم تحسبُ أنَّ أكثرهم يسمعون أو يعقلون إنْ هم إلاَّ كالأنعام بل هم أضلُّ سبيلاً)).
وقيام الحجَّة وبلوغها نوعٌ، وفهمهم إيَّاها نوعٌ آخر، وكمفرهم ببلوغها إيَّاهم وإن لم يفهموها نوعٌ آخر.
فإن أشكل عليكم فنظروا قول رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في الخوارج: ((أينما لقيتموهم فاقتلوهم))، مع كونهم في عصر الصحابة، ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم، وقد بلغتهم الحجة؛ ولكن لم يفهموها)) اهـ.
• وقال الشيخ رحمه الله - أيضاً - كما في الدرر السنية (8/ 79): ((من المعلوم أنَّ قيام الحجَّة ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله كفهم أبي بكر رضي الله عنه؛ بل إذا بلغه كلام الله ورسوله ن وخلا من شيءٍ يعذر به = فهو كافرٌ.
كما كان الكفَّار كلهم تقوم عليهم الحجَّة بالقرآن، مع قول الله تعالى: ((وجعلنا على قلوبهم أكنَّةً ان يفقهوه)) وقوله: ((إنَّ شرَّ الدواب عند الله الصمُّ البكم الذين لا يعقلون)) اهـ.
• وقال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله كما في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (4/ 638): ((وليس المراد بقيام الحجَّة أن يفهمها الإنسان فهماً جليَّاً؛ كما يفهما مَن هداه الله ووفَّقه وانقاد لأمره، فإنَّ الكفار قد قامت عليهم حجَّة الله، مع إخباره بأنه جعل على قلوبهم أكنَّةً أن يفقهوه)).
••• مرَّة أخرى أقول: يتبع - إنشاء الله -، ولكن اصبروا عليَّ قليلاً ...
¥