وفي ذلك كله دليل على أن الصلاة التي تعمد صاحبها إخراجها عن وقتها , فلا يكفرها أن يصليها بعد وقتها , لأنه لا عذر له , والله عز وجل يقول (إِنّ الصّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مّوْقُوتاً) النساء103 , وليس هو كالذي نام أو نسيها , فهذا معذور بنص الحديث , ولذلك جعل له كفارة أن يصليها إذا تذكرها , ألست ترى أن هذا المعذور نفسه إذا لم يبادر إلى الصلاة حين التذكر , فلا كفارة له بعد ذلك , لأنه أضاع الوقت الذي شرع الله له أن يتدارك فيه الصلاة الفائتة؟
فإذا كان هذا هو شأن المعذور: أنه لا قضاء له بعد فوات الوقت المشروع له , فمن باب أولى أن يكون المتعمد الذي لم يصل الصلاة في وقتها وهو متذكر لها مكلف بها أن لا يكون له كفارة , وهذا فقه ظاهر لمن تأمله متجرداً عن التأثر بالتقليد ورأي الجمهور.
ومما سبق يتبين خطأ بعض المتأخرين الذين قاسوا المتعمد على الناسي فقالوا: "إذا وجب القضاء على النائم والناسي مع عدم تفريطهما , فوجوبه على العامد المفرط أولى".
مع أن هذا القياس ساقط الاعتبار من أصله , لأنه من باب قياس النقيض على نقيضه , فإن العامد المتذكر ضد الناسي والنائم.
على أن القول بوجوب القضاء على المتعمد ينافي حكمة التوقيت للصلاة الذي هو من شروط صحة الصلاة , فإذا أخل بالشرط , بطل المشروط بداهة.
وقول شيخ الشمال في نشرة له في هذه المسألة: (إن المصلي وجب عليه أمران: الصلاة , وإيقاعها في وقتها , فإن ترك أحد الأمرين , بقي الآخر) , فهذا مما يدل على جهل بالغ في الشرع , فإن الوقت للصلاة ليس فرضاً فحسب , بل وشرط أيضاً , ألا ترى أنه لو صلى قبل الوقت , لم تقبل صلاته باتفاق العلماء.
لكن كلام الشيخ المسكين يدل على أنه قد خرق اتفاقهم بقوله المتقدم , فإنه صريح أنه لو صلى قبل الوقت , فإنه أدى واجباً , وضيع آخر , وهكذا يصدق عليه المثل السائر: "من حفر بئراً لأخيه وقع فيه" فإنه يدندن دائماً حول اتهام أنصار السنة بخرقهم الإجماع أو اتفاق العلماء , فها هو قد خالفهم بقوله المذكور الهزيل , هدانا الله وإياه سواء السبيل.
وبعد فهذه كلمة وجيزة حول هذه المسألة المهمة بمناسبة هذا الحديث الشريف , ومن شاء تفصيل الكلام فيها , فليرجع إلى " كتاب الصلاة " لابن القيم رحمه الله تعالى , فإنه أشبع القول عليها مع التحقيق الدقيق بما لا تجده في كتاب.
واعلم أنه ليس معنى قول أهل العلم المحقيقين – ومنهم العز بن عبدالسلام الشافعي – أنه لا يشرع القضاء على التارك للصلاة عمداً: أنه من باب التهوين لشأن ترك الصلاة , حاشا لله , بل هو على النقيض من ذلك , فإنهم يقولون: إن من خطورة الصلاة وأدائها في وقتها أنه لا يمكن أن يتداركها بعد وقتها إلى الأبد , فلا يكفر ذنب إخراج الصلاة عن وقتها إلا ما يكفر أكبر الذنوب ألا وهو التوبة النصوح.
ولذلك فهم ينصحون من ابتلي بترك الصلاة أن يتوب إلى الله فوراً , وأن يحافظ على أداء الصلاة في أوقاتها مع الجماعة , وأن يكثر من الصلاة النافلة , حتى يعوض بذلك بعض ما فاته من الثواب بتركه للصلاة في الوقت (إِنّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السّيّئَاتِ) هود 114 , وقد دل على ذلك حديث أبي هريرة: (انظروا هل لعبدي من تطوع فتكملوا به فريضته؟) , وهو في "صحيح أبي داود.
مشروعية رفع الإمام صوته بالتأمين
464 - (كان إذا فرغ من قراءة أم القرآن , رفع صوته وقال: آمين).
في الحديث مشروعية رفع الإمام صوته بالتأمين , وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم من الأئمة , خلافاً للإمام أبي حنيفة وأتباعه , ولا حجة عندهم سوى التمسك بالعمومات القاضية بأن الأصل في الذكر خفض الصوت فيه , وهذا مما لا يفيد في مقابله مثل هذا الحديث الخاص في بابه , كما لا يخفي على أهل العلم الذين أنقذهم الله تبارك وتعالى من الجمود العقلي والتعصب المذهبي.
وأما جهر المتقدين بالتأمين وراء الإمام , فلا نعلم فيه حديثاً مرفوعاً صحيحاً يجب المصير إليه ولذلك بقينا فيه على الأصل الذي سبقت الإشارة إليه , وهذا هو مذهب الإمام الشافعي في "الأم": أن الإمام يجهر بالتأمين دون المأمومين , وهو أوسط المذاهب في المسألة وأعدلها.
¥