واعلم أن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الأحاديث: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ .... ) , إنما هو تفصيل لقوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ .... ) الآية 110 الكهف.
وقد يبادر بعض ذوي الأهواء أو العواطف الهوجاء إلى إنكار مثل هذا الحديث , بزعم تعظيم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وتنزيهه عن النطق به , ولا مجال إلى مثل هذا الإنكار , فإن الحديث صحيح , بل هو عندنا متواتر , فقد رواه مسلم من حديث عائشة وأم سلمة كما ذكرنا , ومن حديث أبي هريرة وجابر رضي الله عنهما , وورد من حديث سلمان وأنس وسمرة وأبي الطفيل وأبي سعيد وغيرهم , انظر (كنز العمال 2/ 124).
وتعظيم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعظيماً مشروعاً , إنما يكون بالإيمان بكل ما جاء عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صحيحاً ثابتاً , وبذلك يجتمع الإيمان به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبداً ورسولاً , دون إفراط ولا تفريط , فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشر بشهادة الكتاب والسنة , ولكنه سيد البشر وأفضلهم إطلاقاً بنص الأحاديث الصحيحة , وكما يدل عليه تاريخ حياته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسيرته , وما حباه الله تعالى به من الأخلاق الكريمة والخصال الحميدة التي لم تكتمل في بشر اكتمالها فيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وصدق الله العظيم إذ خاطبه بقوله الكريم: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) القلم 4.
ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك على أن تشعلوا لي منها شعلة
92 - (ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك على أن تشعلوا لي منها شعلة، يعني: الشمس).
رواه أبو جعفر البختري , وابن عساكر من طريق أبي يعلى وغيره كلاهما عن يونس بن بكير: نا طلحة بن يحيى عن موسى بن طلحة: حدثني عقيل بن أبي طالب قال: (جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: أرأيت أحمد؟ يؤذينا في نادينا وفي مسجدنا , فانهه عن أذانا , فقال: ياعقيل أئتني بمحمد , فذهبت فأتيته به , فقال: يا ابن أخي إن بني عمك زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم وفي مسجدهم , فانته عن ذلك , قال: فلحظ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببصره [وفي رواية: فحلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببصره] إلى السماء , فقال: ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك على أن تشعلوا لي منها شعلة، يعني: الشمس قال: فقال أبو طالب: ما كذب ابن أخي , فارجعوا) , إسناده حسن.
وأما حديث (يا عم , والله لو وضعوا الشمس في يميني , والقمر في يساري , على أن أترك هذا الأمر , حتى يظهره الله أو أهلك دونه , ما تركته) , فليس له إسناد ثابت ولذلك أوردته في الأحاديث الضعيفة.
من فضائل طلحة بن عبيدالله رضي الله عنه
125 - (من سره أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض وقد قضى نحبه، فلينظر إلى طلحة).
أخرجه أبن سعد في الطبقات , أخبرنا سعيد بن مسعود قال: نا صالح بن موسي عن معاوية بن إسحاق عن عائشة بنت طلحة عن عائشة قالت: إني لفي بيتي ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه بالفناء , وبيني وبينهم الستر , أقبل طلحة بن عبيد الله , فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فذكره).
126 - (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَهِيدٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ).
وفي الحديث إشارة إلى قول الله تبارك وتعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) الأحزاب 23 , وفيه منقبة عظيمة لطلحة بن عبيدالله رضي الله عنه , حيث أخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه ممن قضى نحبه , مع أنه لا يزال حياً ينتظر الوفاء بما عاهد الله عليه.
قال ابن الأثير في النهاية: (النحب: النذر , كأنه ألزم نفسه أن يصدق أعداء الله في الحرب , فوفى به , وقيل: النحب الموت , كأنه يلزم نفسه أن يقاتل حتى يموت).
وقد قتل رضي الله عنه يوم الجمل , فويل لمن قتله.
وصية نوح عليه السلام
¥