وروى أبن جرير عن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: (سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي: ما يمنعك أن تغرس أرضك؟ فقال له أبي: أني شيخ كبير أموت غداً فقال له عمر: أعزم عليك , لا تغرسنها، فلقد رأيت عمر بن خطاب يغرسها بيده مع أبي).
ولذلك عد بعض الصحابة الرجل يعمل في إصلاح أرضه عاملا من عمال الله عز وجل.
فروى البخاري في (الأدب المفرد) عن نافع بن عاصم إنه سمع عبدالله بن عمر قال لابن أخ له خرج من الوهط: أيعمل عمالك؟.قال لا أدري. قال: أم لو كنت ثقفياً , لعلمت ما يعمل عمالك. ثم ألتفت إلينا فقال: إن الرجل أذا عمل مع عماله في داره [وقال الراوي مرة في ماله] , كان عاملا من عمال الله عز وجل) , وسنده حسن أن شاء الله تعالى.
والوهط في اللغة: هو البستان , وهي أرض عظيمة كانت لعمرو بن العاص بالطائف على ثلاثة أميال من وج , يبدو أنه خلفها لأولاده.
هذا بعض ما أثمرته تلك الأحاديث في جملتها من السلف الصالح رضي الله عنهم.
وقد ترجم البخاري في صحيحه للحديثين الأولين بقوله: (باب فضل الزرع إذا أكل منه).
قال ابن المنذر: (أشار البخاري إلى إباحة الزرع وأن من نهى عنه – كما ورد عن عمر – فمحله ما إلى شغل الحرث عن الحرب ونحوه من الأمور المطلوبة وعلى ذلك يحمل حديث أبى أمامة المذكور في الباب الذي بعده).
قلت: سيأتي الكلام على الحديث المشار إليه قريبا ان شاء الله تعالى.
التكالب على الدنيا يورث الذل
ذكرت آنفاً بعض الأحاديث الواردة في الحض على استثمار الأرض , مما لا يدع مجالاً للشك في أن الإسلام شرع ذلك للمسلمين , ورغبهم فيه أيما ترغيب.
والآن نورد بعض الأحاديث التي قد يتبادر لبعض الأذهان الضعيفة أو القلوب المريضة أنها معارضة للأحاديث المتقدمة , وهي في الحقيقة غير منافية لها , إذا ما أحسن فهمها , وخلت النفس من اتباع هواها.
10 - (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ وَرَأَى سِكَّةً وَشَيْئًا مِنْ آلَةِ الْحَرْثِ فَقَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا يَدْخُلُ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الذُّلَّ).
وقد وفق العلماء بين هذا الحديث والأحاديث المتقدمة آنفاً بوجهين اثنين:
الأول: أن المراد بالذل ما يلزمهم من حقوق الأرض التي تطالبهم بها الولاة من خراج أو عشر , فمن أدخل نفسه في ذلك , فقد عرضها للذل.
قال المناوي في (الفيض):
(ليس هذا ذماً للزراعة , فإنها محمودة مثاب عليها , لكثرة أكل العوافي منها , إذ لا تلازم بين ذل الدنيا وحرمان ثواب البعض)
ولهذا قال ابن التين:
(هذا من إخباره صلى الله عليه وسلم بالمغيبات , لأن المشاهد الآن أن أكثر الظلم إنما هو على أهل الحرث).
الثاني: أنه محمول على من شغله الحرث والزرع عن القيام بالواجبات , كالحرب ونحوه , وإلى هذا ذهب البخاري , حيث ترجم للحديث بقوله: (باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع , أو مجاوزة الحد الذي أمر به).
فإن من المعلوم أن الغلو في السعي وراء الكسب يلهي صاحبه عن الواجب , ويحمله على التكالب على الدنيا , والإخلاد إلى الأرض , والإعراض عن الجهاد , كما هو مشاهد من الكثيرين من الأغنياء.
ويؤيد هذا الوجه قوله صلى الله عليه وسلم:
11 - (إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ).
فتأمل كيف بين هذا الحديث ما أجمل في حديث أبي أمامة المتقدم قبله؟ فذكر أن تسليط الذل ليس لمجرد الزرع والحرث , بل لما اقترن به من الإخلاد إليه , والانشغال به عن الجهاد في سبيل الله , فهذا هو المراد بالحديث , وأما الزرع الذي لم يقترن به شئ من ذلك , فهو المراد بالأحاديث المرغبة في الحرث , فلا تعارض بينها ولا إشكال.
تنبيه:
من البواعث على كتابة هذا المقال: أن مستشرقاً ألمانياً زعم لأحد الطلاب المسلمين السوريين هناك أن الإسلام يحذر أهله من تعاطي أسباب استثمار الأرض , واحتج بهذا الحديث , وقال: إنه في البخاري , متعامياً عن المعنى الذي ذكره البخاري نفسه في ترجمته للحديث كما سبق.
¥