الثاني: أنه لو صح شئ منها , لم يجز أن يعارض بها هذا الحديث الصحيح , لأنها فعل من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحتمل الخصوصية أو غيرها من الاحتمالات التي توهن الاحتجاج بها , على خلاف هذا الحديث , لأنه حديث قولي وخطاب عام موجه إلى الأمة , فهو حجة عليها , لما تقرر في علم الأصول أن القول مقدم على الفعل عند التعارض , والحاظر مقدم على المبيح , وهذا الحديث قول وحاظر , فهو المقدم على الأحاديث المذكورة لو صحت.
وأما الالتزام والمعانقة , فما دام أنه لم يثبت النهي عنه في الحديث كما تقدم , فالواجب حينئذ البقاء على الأصل وهو الإباحة , وبخاصة أنه قد تأيد ببعض الأحاديث والآثار فقال أنس: (كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا تلاقوا , تصافحوا , وإذا قدموا من سفر , تعانقوا).
وروى البخاري في الأدب المفرد , وأحمد , عن جابر بن عبدالله قال: (بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَجُلٍ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاشْتَرَيْتُ بَعِيرًا ثُمَّ شَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلِي فَسِرْتُ إِلَيْهِ شَهْرًا حَتَّى قَدِمْتُ عَلَيْهِ الشَّامَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ فَقُلْتُ لِلْبَوَّابِ قُلْ لَهُ جَابِرٌ عَلَى الْبَابِ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ قُلْتُ نَعَمْ فَخَرَجَ يَطَأُ ثَوْبَهُ فَاعْتَنَقَنِي وَاعْتَنَقْتُهُ) الحديث , وإسناده حسن.
وصح التزام ابن التيهان للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين جاءه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى حديقته , كما في مختصر الشمائل.
وأما تقبيل اليد ففي الباب أحاديث وآثار كثيرة , يدل مجموعها على ثبوت ذلك عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والسلف , فنرى جواز تقبيل يد العالم إذا توفرت الشروط الآتية:
1 - أن لا يتخذ عادة بحيث يتطبع العالم على مد يده إلى تلامذته , ويتطبع هؤلاء على التبرك بذلك , فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن قبلت يده , فإنما كان ذلك على الندرة , وما كان كذلك , فلا يجوز أن يجعل سنة مستمرة , كما هو معلوم من القواعد الفقهية.
2 - أن لا يدعو ذلك إلى تكبر العالم على غيره ورؤيته لنفسه ,كما هو الواقع مع بعض المشائخ اليوم.
3 - أن لا يؤدي ذلك إلى تعطيل سنة معلومة , كسنة المصافحة , فإنها مشروعة بفعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله , وهي سبب شرعي لتساقط ذنوب المتصافحين ,كما روي في غيرما حديث واحد , فلا يجوز إلغاؤها من أجل أمر أحسن أحواله أنه جائز.
توحيد الموازين
165 - (الْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ).
قال الإمام الطحاوي رحمه الله: (تأملنا هذا الحديث , فوجدنا مكة لم يكن بها ثمرة ولا زرع حينئذ , وكذلك كانت قبل ذلك الزمان ألا ترى إلى قول إبراهيم عليه السلام (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) إبراهيم 37 , وإنما كانت بلد متجر , يوافي الحاج إليها بتجارات فيبيعونها هناك , وكانت المدينة بخلاف ذلك , لأنها دار النخل , ومن ثمارها حياتهم , وكانت الصدقات تدخلها , فيكون الواجب فيها من صدقة تؤخذ كيلاً , فجعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمصار كلها لهذين المصرين أتباعاً , وكان الناس يحتاجون إلى الوزن في أثمان ما يبتاعون , وفيما سواها مما يتصرفون فيه من العروض ومن أداء الزكوات وما سوى ذلك مما يستعملونه , فيما يسلمونه فيه من غيره من الأشياء التي يكيلونها , وكانت السنة قد منعت من إسلام موزون في موزون , ومن إسلام مكيل في مكيل , وأجازت إسلام المكيل في موزون , والموزون في مكيل , ومنعت من بيع الموزون بلموزون , إلا مثلاً بمثل , ومن بيع المكيل بالمكيل , إلا مثلاً بمثل , وكان الوزن في ذلك أصله مكان عليه كان بمكة , والمكيال مكيال أهل المدينة , لا يتغير عن ذلك , وإن غيره الناس عما كان عليه إلى ما سواه من ضده , فيرحبون بذلك إلى معرفة الأشياء المكيلات التي لها حكم المكيال إلى ماكان عليه أهل المكاييل فيها يومئذ , وفي الأشياء الموزونات إلى ماكان عليه أهل الميزان يومئذ , وأن أحكامها لا تتغير عن ذلك ولا تنقلب عنها إلى أضدادها).
¥