فاختلف الناس في هذين الحديثين فقال مالك رحمه الله: هذا كذب يريد حديث عبد الله بن بسر ذكره عنه أبو داود قال الترمذي: هو حديث حسن وقال أبو داود: هذا الحديث منسوخ وقال النسائي: هو حديث مضطرب وقال جماعة من أهل العلم: لا تعارض بينه وبين حديث أم سلمة فإن النهي عن صومه إنما هو عن إفراده وعلى ذلك ترجم أبو داود فقال: باب النهي أن يخص يوم السبت بالصوم وحديث صيامه إنما هو مع يوم الأحد قالوا: ونظير هذا أنه نهى عن إفراد يوم الجمعة بالصوم إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده وبهذا يزول الإشكال الذي ظنه من قال: إن صومه نوع تعظيم له موافقة لأهل الكتاب في تعظيمه وإن تضمن مخالفتهم في صومه فإن التعظيم إنما يكون إذا أفرد بالصوم ولا ريب أن الحديث لم يجىء بإفراده وأما إذا صامه مع غيره لم يكن فيه تعظيم والله أعلم)
فإما أن يقال أن له رحمه الله في المسألة قولان أحدهما شذوذ الحديث و الثاني قبوله و من ثم الجمع بينه و بين ما يعارضه بما تقدم و هو أن النهي عن الإفراد، و إما أن يقال أنه في زاد المعاد عرض رأيه في المسألة على فرض صحة حديث النهي فهل فعل ما أشار إليه الأخ الكريم بقوله
فهذا ابن القيم يحكم على الحديث بالشذوذ لمعارضته لِما ذكر من أحاديث؛ ولولا ذلك لقال بظاهر الحديث وهو المنع من صومه [يريد الأخ الكريم حرمة صومه] في غير الفرض مفرداً أو مضافاً، كما أشار هو في أول كلامه.؟
اللهم لا! فهو لم يقل أنه إن خلا الحديث من الشذوذ فيكون صوم السبت في غير الفرض مفرداً أو مضافاً محرماً كما يريد الأخ الكريم بل إنه قد جمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض و خلص إلى كراهة الإفراد لا الحرمة في الإفراد و غيره، و أترك الحكم للقارئ الكريم مع التنبيه على أنه رحمه الله قال في الزاد عند ذكر طريقة الجمع (قالوا: ونظير هذا أنه نهى عن إفراد يوم الجمعة بالصوم إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده)
وإفراد يوم الجمعة عند ابن القيم رحمه الله ليس محرماً بل هو مكروه فقط قال في زاد المعاد [جزء 1 - صفحة 403]
(وذكر ابن جرير عن مغيرة عن إبراهيم: إنهم كرهوا صوم الجمعة ليقووا على الصلاة
قلتُ: المأخذ في كراهته: ثلاثة أمور هذا أحدها ... والثاني: أنه يوم عيد وهو الذي أشار إليه صلى الله عليه وسلم وقد أورد على هذا التعليل إشكالان أحدهما: أن صومه ليس بحرام و صوم يوم العيد حرام والثاني: إن الكراهة تزول بعدم إفراده وأجيب عن الإشكالين بأنه ليس عيد العام بل عيد الأسبوع والتحريم إنما هو لصوم عيد العام)
كما أنه قد صرح في موطن آخر بعدم الحرمة فقال
زاد المعاد [جزء 1 - صفحة 403]
فإن قيل: ما تقولون في تخصيص يوم غيره بالصيام [أي غير الجمعة]؟
قيل: أما تخصيص ما خصصه الشارع كيوم الإثنين ويوم عرفة ويوم عاشوراء فسنة وأما تخصيص غيره كيوم السبت والثلاثاء والأحد والأربعاء فمكروه وما كان منها أقرب إلى التشبه بالكفار لتخصيص أيام أعيادهم بالتعظيم والصيام فأشد كراهة وأقرب إلى التحريم
فالخلاصة أن ابن القيم رحمه الله لو صح عنده حديث النهي فإنه كان سيقول بكراهة إفراده لا بحرمة صيامه مفرداً أو مضافاً.
فالحديث يدل دلالة واضحة على ان المقصود من النهي هو تحريم صيام يوم السبت وانما قالوا بخلاف ذلك لحكمهم على الحديث بالشذوذ او النسخ وقد بينا سابقا ان الحديث خالٍ من هذه العلل.
لقد تبين مما سبق أنهم لو لم يحكموا على الحديث بالشذوذ أو النسخ لقالوا بكراهة الإفراد أو التخصيص كقول الجمهور و سيأتي عن الطحاوي رحمه الله مثله.
من جهة أخرى فالذين قالوا بصحة الحديث و خلوه من العلل قالوا بخلاف تحريم صيام يوم السبت فقالوا بكراهة الإفراد كما هو معلوم!
فاذا تقرر ذلك وجب الاخذ بالحديث وإن لم يعرف أن أحداً عمل به , فالحديث حجة بنفسه لا يحتاج إلى الاحتجاج به أن يعرف أن أحد من الأئمة عمل به.
لقد تعبت حقيقة من كثرة الرد على هذا الكلام الذي يكرره الأخ الكريم بعبارات مختلفة، و لكن لا بأس، أعيد الرد عسى الله أن ينفع به فأقول:
إنني أسأل كل منصف يقرأ كلامي هذا سؤالاً: هل القائلون بكراهة صيام السبت في النفل احتجوا بحديث النهي أم لا؟ فإذا كان الجواب هو لا فبأي دليل احتجوا على هذه الكراهة إذاً؟!!
¥