5. أن القائلين بالعرف لا يَعتبرون طول المدة سبباً لثبوت الإقامة مطلقاً، ولا قِصَرَها سبباً لنفيها مطلقاً؛ كما لا يَعتبرون نية العودة إلى الوطن، أو تحديد الإقامة بوقت أو عمل سبباً في نفي هذه الإقامة، بل متى وُجدت أعمال الطمأنينة التي يُعتبر بها المرء مقيماً عند الناس فقد انقطعت في حقه رخص السفر.
الراجح وأوجه الترجيح:
من عرض الأقوال وأدلتها، وما يَرِدُ عليها من اعتراضات، وأن القول الرابع ـــ وهو ضبط الإقامة بمقتضى العرف ـــ قد سلم من هذه الاعتراضات ظهر أن الراجح هو هذا القول؛ وقد ترجح ذلك بأوجه:
الوجه الأول: أن اعتبار العرف في هذه المسألة هو مقتضى قاعدة الأسماء المطلقة في الشريعة، ومقتضى هذه القاعدة هو اعتبار الحقيقة الشرعية؛ فإن لم يوجد فيها تحديد فاللغوية؛ فإن لم يوجد فيها تحديد فالعرفية.
قال الفقهاء: كل اسم ليس له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف ([49]).
وحيث تقدم في استقراء ابن تيمية عدم وجود دلالة صحيحة من الشريعة على الحدود الزمنية؛ كالأربعة أيام والخمسة عشر يوماً والعشرين؛ كما لم تظهر دلالة صحيحة أيضاً على الاستيطان ولا ضابط إرادة الوقت والغرض: وجب المصير إلى اللغة، وحيث لا حد في اللغة؛ لأنه لا يمكن أن يكون للإقامة حد لغوي تتعلق به أحكام العبادة، دون أن ينقله أهل اللغة، وقد حرصوا أعظم الحرص على نقل حدود اللغة ومعانيها فيما هو أدقُ وأقلُ حاجةً من حدي السفر والإقامة ومعناهما، لاسيما أن حملة اللغة هم فقهاء الأمة من أصحاب النبي e والتابعين ومن بعدهم من العلماء؛ فلم يبق من هذه الحقائق ما تُحَدُّ به الإقامة إلا العرف.
وهذه هي طريقة الفقهاء في المسائل المماثلة التي اعتبروا فيها المعنى العرفي لتحديد المراد من نصوص الشريعة عند عدم الشرعي واللغوي؛ وذلك في مسائل كثيرة ([50])، وقد طبَّق هذه القاعدة في هذه المسألة الإمام ابن تيمية، والعلامة عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، وغيرهما.
والمتأمل يرى أن كثيراً من الفقهاء يَعتبرون العرف في أكثر أحوال الإقامة؛ كما سيأتي في مبحث "أسباب الإقامة العرفية" في صحيفة (40) إن شاء الله، وهذا عرض موجز لبعض هذه الأحوال:
فمن ذلك اشتراط بعض الفقهاء المكان الصالح للإقامة عرفاً، وهو مذهب أبي حنفية، والشافعي في قوله الآخر وأحمد في الرواية الثانية؛ فلا يجري حكم المدة عند هؤلاء الفقهاء إلا في مكان معتبر عرفاً، أي أن من نزل مكاناً غير صالح للإقامة عادةً فهو مسافر، وإن اجتمعت له مدة كثيرة.
ومنه: اعتبار أكثر الفقهاء أن النازل للحرب غير مقيم مطلقاً، وإن جاوز المدة المعتبرة في مذاهبهم؛ لما يلحظ في الحرب من معاني الاضطراب والتردد وعدم الاستقرار.
ومن ذلك اعتبار بعض العلماء التأهل مؤثراً في ثبوت وصف الإقامة وملغياً لتأثير المدة التي يرونها حداً لهذه الإقامة.
ومن ذلك حال العَزَب واعتبار مقر إقامة والدية مقر إقامة له.
ومن ذلك اعتبار المسكن سبباً للإقامة.
ومن ذلك اعتبار نوع هذا المسكن؛ فتُعتبر الإقامة للبدوي في الأخبية والخيام في البرية، ولا تُعتبر للحضري في مثل هذه المساكن.
ومنها اعتبار العلماء لأثر اتخاذ المتاع والأثاث في بعض الأحوال.
ومن ذلك سقوط اعتبار الوطن إذا مر به المسافر عابراً.
ومما يُعتبر من نتائج اعتبار العرف: ما في مذهب أحمد في قوله الآخر، وهو أن من أقام لحاجة ينتظر نجاحها بلا نية إقامة فهو مسافر، ولو نوى أكثر من مدة الإقامة في المذهب، إذا كان يحتمل قضاؤها قبل المدة.
ونحو ذلك في مذهبي أبي حنيفة والشافعي كما سيُذكر هناك.
فاعتبار أولئك العلماء هذه الأمورَ العرفيةَ دون جعل المدة معياراً وحيداً لثبوتها هو الملائم لظاهر هدي النبي e وعمل الصحابة رضي الله عنهم.
فهذا يؤكد أن المدة عندهم ليست علة مطردة في الترخص أو عدمه، وإنما هي ضرب من الاحتياط ([51]).
ولعل الواحد منهم حين اعتبر حصول الإقامة ببعض هذه الأسباب قد نظر إلى الإقامة من بعض زواياها، ولا يعني ذلك عنده ضرورة أنه لم يعتبر أسباباً أخرى لثبوت هذه الإقامة.
الوجه الثاني: أن ظاهر هدي النبي e يدل على ذلك.
¥