تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فقد كان يرافق النبي e في أسفاره وإقامته عدد كبير جداً من أصحابه، وقد سكتوا عن سؤاله عن سبب ترخصه في أوقات مسيره ونزوله أثناء سفره؛ كما سكتوا عن سؤاله عن سبب تركه للرخصة في نزوله في المدينة، وسكت هو e عن بيان هذا السبب في الحالين؛ فلا يخلو هذا الإطباق على ترك السؤال، وسكوت النبي عن البيان من احتمالات ثلاث:

الأول: أن سبب ذلك هو كون الحد معلوماً عند الصحابة رضي الله عنهم من الشريعة.

الثاني: أن ذلك لكونه معلوماً عندهم من لغة العرب.

الثالث: أن سبب ذلك هو أنه أحالهم على ما هو معروف عندهم من معنى السفر والإقامة.

وليس ثمة احتمال رابع.

فالاحتمال الأول غير وارد، حيث لا يمكن أن يكون الحد معلوماً عند هذه الجموع أخذت علمه من الشريعة، حتى تصل درجة معرفته ووضوحه وانتشاره إلى ترك السؤال عنه، ودون أن يُحفظ عنه e أنه علَّمه لهم ولو مرة واحدة، ودون أن يصل هذا الحد الشرعي إلى من بعدهم بالدرجة نفسها من الوضوح والانتشار.

وأنت عليم بمقدار خلاف الصحابة والتابعين في هذا التحديد، ولو كان علمه بهذه الدرجة من الوضوح لما اختلفوا.

والاحتمال الثاني غير وارد أيضاً؛ لما تقدم قريباً من أن هذا الحد لو كان معلوماً من اللغة لنقلته الأمة.

فتعين الاحتمال الثالث وهو أنه اعتبر العرف.

وذلك لأن الرسول e لا يختص بالعلم به دونهم؛ كاختصاصه بمسائل التوقيف والتعبد التي لا تُعرف إلا من طريقه e ؛ فيحتاجون معها إلى بيانه.

ولكن الجميع يشتركون في معرفة حد الإقامة والسفر؛ فلذلك لم يبينه لهم، ولم يحتاجوا للسؤال عنه.

فكان اعتبار العرف هو المناسب لسكوت النبي e عن البيان وترك أصحابه للسؤال.

فصار في ظاهر هدية e ما يدل على اعتبار العرف في هذه المسألة؛ فيترجح على بقية الأقوال.

الوجه الثالث: أن تعليل العزيمة بوصف الإقامة العرفي مطرد منعكس.

ففي الطرد: أتم النبيُ e وأصحابُه صلاتهم في المدينة في أحوال هي عند أهل العرف من الإقامة، وهو مطرد كذلك حين لم يُحفظ ترخصٌ لمقيم مطمئن غير مستوطن، ولا حُفظ أيضاً ترخصٌ لمقيم إقامة عرفية معلقة بوقت أو تحقيق غرض، رغم عموم البلوى بمثل هذه الإقامات، وتوفر الهمم والدواعي على نقل الترخص فيها لو كان موجوداً.

وفي العكس: كان النبي e يترخص في أحوال تُعتبر عند أهل العرف من السفر، أو من توابعه، أي ليست من الإقامة، سواء كان ذلك حالَ الشخوص والحركة، أو حالَ النزول في مصر أو فضاء، ولم يوجد في منازله e ما يُعتبر فيها مقيماً مطمئناً قاطعاً لسفره.

ومسلك الدوران وإن اختلف الفقهاء في اعتباره طريقاً لاستنباط العلة ابتداء إلا أن المخالفين في ذلك من فقهاء الأصول يعتبرون وجوده دليلاً على سلامتها من النقض، وعلامةً على شدة تأثيرها ([52]).

أما ما جاء في أحاديث النبي e وآثار بعض الصحابة والتابعين المذكورة في صحيفة (14)؛ فعند تأملها لا تجد فيها ما ينتقض به اعتبار العرف، ولا ما يفسد دوران العلة مع الحكم.

فليس فيها حال واحدة ثبتت فيها الإقامة بمعناها المعروف عند الناس من وجود الطمأنينة واتخاذ سكن ومتاع المثل في مدة طويلة، ونية مستقرة، وفي مكان صالح للنزول، وغيرها من أوصاف الإقامة العرفية التي يَعْتبِرُ الناسُ النازلَ فيها مقيماً.

والأصل هو عدم تحقق الإقامة بهذه الأوصاف حتى يُثبت المخالف وجودها؛ فإن لم يُثْبِتْ ذلك فالأصل هو بقاء السفر أو حكمِه.

فهذه الأحوال إنما هي من السفر، أو من توابعه عُرفاً، قال ابن تيمية رحمه الله: ( .. وقد أقام المهاجرون مع النبي e عام الفتح قريباً من عشرين يوماً بمكة، ولم يكونوا بذلك مقيمين إقامة خرجوا بها عن السفر) ([53]).

وقال ابن القيم في فوائد غزوة تبوك: ( .. ومنها أنه أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة، ولم يقل للأمة: لا يقصر الرجل الصلاة إذا أقام أكثر من ذلك، ولكن اتفقت إقامته هذه المدة، وهذه الإقامة في حال السفر لا تخرج عن حكم السفر، سواء طالت أو قصرت إذا كان غير مستوطن، ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع) ([54]).

وسيأتي مزيد بسط لفقه هذه الأحاديث والآثار في صحيفة (62).

وأما وجود زوجات النبي e معه في أسفاره فلا ينتقض به هذا

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير