التعليل؛ وذلك لأن التأهل الذي يُعتبر به المرء مقيماً عرفاً هو كون الزوجة مقيمة في المكان الذي ينزله المسافر.
أما إذا كانت هي مسافرة فلا تأثير لها في حال زوجها. بل قال كثير من العلماء: إن المرأة هي التي تتبع زوجها في حكم سفره وإقامته ([55]).
وزوجات النبي e لم يَكُنَّ معه إلا مسافرات؛ فلا يعتبر وجودهن معه مفسداً لهذه العلة، ولا مانعاً من دورانها.
الأسباب العرفية للسفر
حيث ظهر أن الراجح هو اعتبار العرف في هذه المسألة فإن من مكملاتها ذكر بعض أسباب وتطبيقات السفر والإقامة؛ لأن فقه الأخبار الواردة في الترخص لا يُتصورُ تصوراً تاماً إلا بعد تأمل هذه الأسباب والتطبيقات العرفية.
ونظراً إلى أن وصفي السفر والإقامة العرفيين نقيضان لا يجتمعان معاً، ولا يرتفعان معاً؛ فثبوت أحدهما نفي للآخر، وأننا قد نحتاج إلى استبقاء
أو نفي وصف الإقامة فلا بد من معرفة حدود السفر عند أهل العرف؛ لهذا السبب ذكرت هنا الأسباب العرفية للسفر ([56]):
السبب الأول: البروز من دار الإقامة ومفارقة عمرانها.
فمكان ابتداء السفر هو الأرض الفضاء التي لا عمران فيها، ومفارقة العمران مسألة عرفية ([57])؛ فلا يدخل في ذلك الضياع والمزارع ([58])، ولو كان الناس يقيمون فيها بعض الفصول ([59])، ومثل ذلك المعارض والمستودعات ومحطات الوقود، وإن كانت مزدهرة، وإذا جرت عادة أهل البلد بسكنى مزارعهم دوماً ـــ كبعض أهل الأرياف ـــ فلا بد من مجاوزتها ([60]).
السبب الثاني: الطريق وطبيعة المركب.
فالطرق الوعرة التي تمر في الحرار والجبال والغابات تختلف في حكمها العرفي عن الطرق السهلة المعبدة؛ فخمسة عشر كِيلاً مثلا في جَوَادِّ جبال تهامة التي لا تُقطع إلا بالمشي أو الدواب قد تُعَدُّ سفراً، بينما لا تُعَدُّ كذلك مع سهولة الطريق أو وجود المراكب السريعة، هذا في حال المسافة القصيرة، أما الشاسعة عرفاً فلا تأثير لنوع المركب؛ فتُعتبرُ سفراً مهما كان المركب وطريقة السير؛ كما سيأتي في السبب التالي.
قال ابن تيمية عن اختلاف أحوال المسافرين بحسب اختلاف الحال:
( .. وقد يكون في المسافة صعود، وقد يطول سفر بعضهم لبطء
حركته، ويقصر سفر بعضهم لسرعة حركته، والسبب الموجب هو نفس السفر، لا نفس مساحة الأرض) اهـ ([61]).
وقال: (فالسفر حال من أحوال السير لا يُحَدُّ بمسافة ولا زمان) ([62]).
وقال عن حد السفر بالمسافة: (ولا يمكن أن يُحدَّ ذلك بحد صحيح؛ فإن الأرض لا تُذرع بذرع مضبوط في عامة الأسفار، وحركة المسافر تختلف، والواجب أن يُطلق ما أطلقه صاحب الشرع e ، ويُقيَّد ما قيَّده؛ فيقصر المسافر الصلاة في كل سفر .. ) ([63]).
وقال: ( .. وقد يركب الرجل فرساً يخرج به لكشف أمر، وتكون المسافة أميالاً ويرجع في ساعة أو ساعتين، ولا يُسمى مسافراً، وقد يكون غيره في مثل تلك المسافة مسافراً، بأن يسير على الإبل والأقدام .. ) ([64]).
السبب الثالث: مسافة السفر ونية قطعها.
لا يكون الشاخص مسافراً إلا بوجود مسافة السفر مع نية قطعها، وهذا وصف رئيس من أوصاف السفر عند الناس؛ فأول ما يتبادر إليهم عند ذكر السفر هو طول المسافة؛ فتراهم عند طولها يقولون: إن هذا سفر.
وأهل اللغة يُعَرِّفون السفر بأنه "قطع المسافة" ([65]).
وإذا أردت تصور تأثير المسافة في السفر العرفي فانظر هذا في شخصين كل منهما جاوز بنيان بلده سائراً؛ فأحدهما أراد قطع مسافة ألف كيل، والآخر أراد قطع خمسة عشر كيلاً، وكل منهما يرجع من مسيره هذا إلى بلده دون تزود أو مبيت؛ فالناس يقطعون في صاحب الألف كيل بأنه مسافر، وأن الآخر غيرُ مسافر؛ فلم يُفرِّقِ الناسُ بين الحالين إلا بالمسافة.
وكان كثير من السلف يَعتبرون طول المسافة دون جعلها حداً مشتركاً؛ فعن معاذ وعقبة بن عامر وابن مسعود قالوا: (لا تغرنكم مواشيكم يطأ أحدكم بماشيته أحداب الجبال، أو بطون الأودية، وتزعمون بأنكم سَفْرٌ، لا ولا كرامة، إنما التقصير في السفر البات من الأفق إلى الأفق) ([66]).
وقيل لإبراهيم: أتُقْصَرُ الصلاة إلى المدائن؟ قال: إن المدائن قريب، ولكن إلى الأهواز، ونحوها ([67]).
¥