تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وتقدير أدنى المسافة المعتبرة لقيام وصف السفر، وكذلك الشاسع منها هو من المسائل العرفية التي تختلف باختلاف الأحوال.

وأدنى مسافة السفر قد لا تستقل بقيام وصفه؛ فقد تحتاج هذه المسافة القليلة إلى أوصاف أخرى؛ كنوع المراكب في ذلك الزمان أو المكان، وكذلك وعورة الطريق والتزود والمبيت والانقطاع والغيبة.

وقد قرر ابن تيمية أن المسافة ليست سبب السفر الوحيد بل لا بد من مبيت وتزود أو أحدهما؛ كالبريد إذا ذهب بلا تزود ورجع من يومه من غير نزول؛ فلا يُسمى مسافراً، وغيره في تلك المسافة قد يُسمى مسافراً ([68]).

وقال رحمه الله في موضع آخر: ( .. فالمسافة القريبة في المدة الطويلة تكون سفراً، والمسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفراً) اهـ ([69]).

وقال: ( .. وكلام الصحابة .. يدل على أنهم لم يجعلوا قطع مسافة محدودة، أو زمان محدود: يشترك فيه جميع الناس، بل كانوا يجيبون بحسب حال السائل؛ فمن رأوه مسافراً أثبتوا له حكم السفر، وإلا فلا) اهـ ([70]).

ترخص من لا نية له أو كانت نيته مترددة:

ومن شخص عن بلده ولا نية له في مسافة السفر العرفي فهو مقيم لا رخصة له؛ كالهائم ومتتبع الكلأ ومن خرج لرد ضالة، إلا أن يبلغ مكاناً يكون رجوعه منه إلى بلده سفراً عرفاً؛ فحينئذ يُشرع له الترخص ([71]).

ومن علَّق سفره بلحاق القافلة بضاحية البلد؛ فإن حصل له ذلك سافر وإلا أقام، ولم يغلب على ظنه حصول مراده فهو باق على حكم الإقامة؛ وذلك لعدم النية العازمة على السفر ([72]).

ونظير هذا في الوقت الحاضر ما يُسمى "بحجز الانتظار"، و"الحجز المؤكد" في الطائرات والقطارات والسفن:

فإذا كان المطار خارج بنيان البلدة أو في بلدة أخرى، ولم تكن مسافته سفراً، وكان الحجز مؤكداً، أي يغلب على ظنه أن يسافر فهو في المطار وفي الطريق إليه مسافر، وإن كان غير مؤكد، وهو ما يُسمى بالانتظار فلا رخصة له؛ لأن الأصل بقاء الإقامة فلا نخرج منها إلا بيقين أو غلبة ظن.

وهل نية السفر للذي تجب عليه طاعة متبوعه معلقة بنية ذلك المتبوع؛ كالزوجة مع زوجها والجندي ذي الرزق مع قائده والرقيق مع سيده والابن مع أبيه ونحوهم؟ فإذا ترخص ترخصوا؟ فيها قولان مشهوران لأهل العلم، أصحهما عدم مشروعية الترخص لهؤلاء؛ لأن طاعة البشر لا يصح أن تكون سبباً لاستباحة الرخصة بمجرد التبعية؛ فالأصل إذاً هو أن على هؤلاء الأخذ بالعزيمة حتى يثبت عندهم سبب الرخصة، ولا تكفي رؤيتهم متبوعهم يترخص، ولا بأس هنا بالعمل بالأمارات وقرائن الأحوال.

وسؤالُ التابعِ متبوعَه عن مقصده لا ينافي كمال الطاعة والتعظيم.

إذا طالت المسافة فصاحبها مسافر ولو عاد من يومه دون مبيت:

ومن قطع مسافة شاسعة كمائة كيل ونحوها فهو مسافر وإن رجع من يومه؛ وذلك لأن أهل العرف يرونه كذلك.

وقد صحَّ عن علي t أنه خرج إلى "النخيلة"؛ فصلى بها الظهر والعصر ركعتين ثم رجع من يومه؛ فقال: أردت أن أعلمكم سنة

نبيكم ([73]). فقد ترخص رغم أنه رجع من يومه.

ومن احتج بكلام الإمام ابن تيمية هذا من أن المسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفراً، حتى في الشاسع منها؛ فاعتبروا أن من قطع ثلاثمائة كيل مثلاً دون مبيت أو تزود أنه غير مسافر فهو محل نظر وتأمل؛ لأمرين:

الأول: أن ابن تيمية لم يتعرض للمسافات الشاسعة التي يَعتبرها أهل العرف سفراً حتى وإن رجع من ساعته ويومه؛ كالمائتي كيل ونحوها؛ فالناس لا يكادون يختلفون في اعتباره مسافراً، ومثال ابن تيمية رحمه الله في كلامه هذا إنما كان بالمسافة القصيرة جداً.

ومما يؤكد ذلك أنه ذكر هذه القاعدة في مواضع عدة ([74])، ومثَّل لها بمسافات قصيرة، وهي البريد والفرسخ، وبالمسافة بين مكة وعرفة، وبالمسافة بين المدينة وقباء، وبمسير الساعة والساعتين، ولم يذكر مع هذه القاعدة مسافات شاسعة.

الثاني: على تسليم أن ابن تيمية يرى عموم تلك القاعدة لجميع المسافات فإنه إنما يتكلم في تقدير ذلك بصفته من أهل العرف لا بصفته مجتهداً مستدلاً من الشريعة؛ فإذا كان الأمر كذلك فإن الأعراف قد تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال، هذا من وجه، ومن وجه آخر: قد يختلف أهل العرف أنفسهم في التقدير والحكم، وإن اتحد المكان والزمان والحال.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير