ويلزم من طرد هذه القاعدة وهي عدم اعتبار المسافة الطويلة في المدة القليلة يلزم من ذلك أن نقول: إن من سافر بالطائرة مسافة ثلاثة آلاف
كيل، أو بالسيارة ألف كيل مثلاً، ثم عاد من فوره أنه غير مسافر؛ لأنه يعود من نهاره ولا يبيت، وهذا مخالف للمقطوع به عرفاً.
تنبيه حول كلام لابن تيمية في المسافة:
قول ابن تيمية رحمه الله: ( .. فالتحديد بالمسافة لا أصل له في شرع ولا لغة ولا عرف ولا عقل .. ) ([75]) لا يُعتبر معارضاً لاعتبار المسافة العرفية في بعض أحوال السفر.
وذلك لما ظهر خلال كلامه من أن نكيره إنما هو على من جعل ضبط السفر بالمسافة حداً عاماً يشترك فيه جميع الناس في كل أحوالهم؛ كأن يقال مثلاً: إن من قصد دون أربعة بُرُدٍ فليس بمسافر في جميع الأمكنة والأزمنة والطرق والمراكب.
يوضح ذلك ويجليه حكايتُه ـــ رحمه الله ـــ أقوال بعض الصحابة التي تضمنت تحديداً بمسافة، وهذا يدل على أنه لا يعترض على اعتبار المسافة مطلقاً، وإنما على جعلها حداً مشتركاً.
كما أن ابن تيمية يَعتبر المسافة القليلة والمدة الكثيرة في ثبوت وصف السفر العرفي، حيث قال هنا: (فالمسافة القريبة في المدة الطويلة تكون سفراً، والمسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفراً) ([76])؛ فهل تمكن معرفة المسافات القريبة والبعيدة والمدة الطويلة والقصيرة إلا بتقدير تقريبي؟ وهل يمكن ذلك إلا بالعرف؟
وقد حكى رحمه الله أقوال بعض الصحابة الذين مثَّلوا للسفر بمسافات ثم قال: (وكلام الصحابة يدل على أنهم لم يجعلوا قطع مسافة محدودة أو زمان محدود يشترك فيه جميع الناس، بل كانوا يجيبون بحسب حال السائل؛ فمن رأوه مسافراً أثبتوا له حكم السفر، وإلا فلا) ([77]).
السبب الرابع: حمل الزاد والمزاد.
وهذا الوصف وإن كان قليلاً في زماننا بسبب انتشار مراكز التسويق على طول الطريق، وفي أماكن النزول، إلا أن أهل العرف يستدلون به مع أوصاف أخرى على تحقق وصف السفر.
قال ابن سيرين: (كانوا يقولون: السفر الذي تُقصَرُ فيه الصلاة الذي يُحْمَل فيه الزاد والمزاد) ([78]).
وهذا الوصف من الأوصاف المؤكدة لوجود السفر، ولكنها لا تستقل بنفيه ولا إثباته؛ فقد يُعتبر مسافراً دون تزود، وقد يُعتبر مقيماً مع تزوده.
السبب الخامس: الانقطاع والغيبة.
وهي سمة من سمات السفر عند أهل العرف إذا كان سببها بعد الطريق أو وعورته أو غلاء قيمة وسائل النقل أو بطؤها أو اضطراره إلى المبيت هناك ليلةً أو ليالي بسبب تشعب حاجاته أو طول وقت معالجتها حتى مع قرب مقصده كأربعين كِيلاً أو خمسين.
هذا كله مع شرط البروز وقطع أدنى مسافة يعرفها أهل العرف من مسافة السفر.
قال رجل لابن عباس: أقصر إلى الأُبلة؟ قال: تذهب وتجيء في
يوم؟ قلت: نعم، قال: لا إلا في يوم متاّح ([79]).
وعن ابن عمر قال: (لا تُقصر الصلاة إلا في يوم تام) ([80]).
فلعل ابن عمر أراد تأثير الغيبة، ولو أراد المسافة لقال: مسيرة يوم تام، ومما يؤكد إرادة تأثير الغيبة أنه ترخص في مسافات قصيرة تُقطع في نصف نهار؛ فقد صح عنه t أنه قصر الصلاة إلى "ريم" ([81]).
وقد تقدم في صحيفة (34) كلام ابن تيمية في أثر المبيت والغيبة في وصف السفر.
واعتبار هذا السبب مع بقية الأسباب هو أصح ما يُوجَّه به قصر أهل مكة مع النبي e في عرفة؛ فلم يكن ترخصهم لأجل النسك، وإنما لكونهم من المسافرين ([82])؛ فإن من يذهب إلى عرفة من أهل مكة ـــ في ذلك الوقت ـــ لغرض ويرجع من ساعته أو يومه لا يُعتبر مسافراً، ولكنه إذا برز وقطع تلك المسافة وتزود وبات وغاب اعتُبر مسافراً.
هل التوديع والاستقبال وصفان لازمان للسفر؟
درج الناس في القديم على توديع المسافر واستقباله، ولا زال عمل بعضهم على ذلك إلى الآن، لا سيما مع طول الغيبة؛ فهما مؤكدان لوجود السفر، ولكنهما ليسا لازمين لقيام وصفه. ومثل ذلك حمل الزاد والمزاد، حيث قد يُعتبر المرء مسافراً دون حملٍ لزاد أو مزاد؛ فهذه الأوصاف وأمثالها لا تُعتبر من شروط السفر؛ لأنه لا يلزم من عدمِها عدمُه.
وذلك بخلاف سبب المسافة مثلاً فإنه يلزم من عدمه عدمُ السفر؛ فلا يكون الشاخص مسافراً إلا به.
الأسباب العرفية للإقامة
¥