إن حقيقة الإقامة هي: وجود أسباب التعلق بمكان النزول؛ فمتى اكتملت هذه الأسباب أو كثرت أو قويت عُدَّ النازل من المقيمين في
ذلك المكان، ومتى عُدمت هذه الأسباب كلها أو قلَّت أو ضعفت ـــ وكان قد أحدث سفراً ـــ فصاحبها مسافرٌ، أو في حكم المسافرين.
وهذا عرض لأسباب الإقامة عند أهل العرف:
السبب الأول: نية الإقامة المستقرة ومدتها.
إن للنية تأثيراً كبيراً في ثبوت وصف الإقامة، أو نفيه:
فقد أجمع العلماء في السفر والإقامة على حالين مبناهما على نية النازل:
الأولى: الاستيطان، وهو نية الإقامة على التأبيد؛ فمن نوى المكث في المكان على التأبيد فهو مقيم بإجماع أهل العلم.
والثانية: التردد كل يوم في السفر والإقامة، وهو حال من يقول: اليوم أخرج .. غداً أخرج؛ فقد أجمعوا أن مَنْ هذه حاله فهو مسافر.
فالحال الأولى نية ومدة مؤبدة وحال عليا من الطمأنينة والاستقرار، والثانية مدة أيضاً، وهي اليوم الواحد، ونية مترددة، وحال عليا من الاضطراب والتردد.
ويوجد بين هذين الحالين المجمع عليهما أحوال متفاوتة تؤثر في ثبوت الوصف أو نفيه كلها تُبنى على نية النازل، مع حاله أو عمله.
إرادة المدة أول أسباب الإقامة:
إن قصد المدة الطويلة عرفاً هو أول أسباب الإقامة عند الناس؛ فالغالب أن المرء لا يتخذ أسباب الإقامة العملية من سكن المثل أو متاعه، وقد
لا يتأهل إلا حين يريد المدة الطويلة، أما إذا كان ينوي مدة قصيرة، أو كان متردداً مضطرباً فإنه لا يتخذ هذه الأسباب.
وتأثير المدة في الإقامة عند أهل العرف واضح بيِّن؛ فالمرء إذا نزل بلداً أياماً معدودة ـــ كعشرة أيام أو عشرين ـــ لم يُعتبر قاطعاً لسفره بذلك، ولا يُوصف عندهم بأنه مقيم في هذا البلد، ولا أنها صارت من دور إقامته، حتى مع حصول بعض أسباب الإقامة الأخرى؛ كوجود أهله معه في نزوله ذاك، أو كون البيت مملوكاً أو مستأجراً، بيد أنه باجتماع هذه الصفات، مع قصد المكث مدةً طويلةً بنية مستقرة فإنه يُعتبر مقيماً.
أثر المدة في وصف الإقامة العرفي عند الهيتمي:
وقد سُئِل العلامة ابن حجر الهيتمي رحمه الله عمن أوقف على الفقراء المقيمين ببلد .. ما المراد بالإقامة هل هو الإقامة الشرعية أربعة أيام، أو المجاورة سنة أو سنتين، أو الاستيطان؟ فكان من إجابته أن المقيم هو من: (مكث مدة ثَمَّ، بحيث صار أهل العرف يعدونه مقيماً بذلك المحل) ([83]).
فلم يَعْتَبِرْ في ضبط الإقامة ما يراه في مذهب الشافعية فيما تُقْصرُ فيه الصلاة، وهي الأربعة الأيام، وإنما اعتبر مراد الناس من لفظ الإقامة عند إطلاقه وهو المعنى العرفي؛ كما أنه اعتبر لقيام هذا المعنى وجود المدة.
وتنزيل لفظ الإقامة في الشريعة على المعنى العرفي عند إطلاقه لا يختلف عن هذه الطريقة، لا سيما مع عدم وجود حد في الشريعة أو اللغة.
لا إقامة مع نية مضطربة:
الاضطراب والتردد في نية الإقامة، أو عدم وجود هذه النية منافٍ للإقامة بمعناها المعروف عند الناس، وهذه بعض أحوال الاضطراب التي تمنع من قيام وصف الإقامة:
حال الحرب:
وحال الحرب والخوف من أعظم أسباب الاضطراب المنافي للإقامة.
لذلك ذهب جماهير علماء المذاهب الأربعة وغيرهم إلى أن حكم المدة التي تُقصر فيها الصلاة في كل مذهب لا يجري في حال الحرب أو في داره؛ فيجوز الترخص وإن جاوزت نية المكث خمسة عشر يوماً ([84]).
وقد قرر ابن نجيم أن حكم الترخص يشمل حرب الكفار والبغاة في دار الإسلام أو دار الحرب، وعلَّل ذلك بأن حال المقاتلين يخالف عزيمتهم ([85]).
وقال الشرنبلالي: (ولا تصح نية الإقامة ببلدتين لم يعين المبيت
بإحداهما، ولا في مفازة لغير أهل الأخبية، ولا لعسكرنا بدار الحرب،
ولا بدارنا في محاصرة أهل البغي) ([86]).
وقال ابن مفلح: (إن إقامة الجيش للغزو لا يمنع الترخص، وإن طال؛ لفعله e ) ([87]).
نزول المسافر لحاجة ينتظر نجاحها:
ومن أحوال عدم الاستقرار حالُ من نزل لحاجة؛ كإدارة تجارة عاجلة أو شراء حوائج، أو منتظراً رفقة، وهو لا ينوي الإقامة، بل متى انقضت حاجته عاد إلى بلده فهو مسافر، ولو اجتمع له بعد ذلك مدة طويلة.
¥