تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وذلك لأن الإقامة مبناها على الاستقرار والطمأنينة، ومَنْ هذه حاله ففيه انزعاج المسافرين؛ فلم تتحقق له الإقامة مع بقاء هذه الحال؛ فهو إذاً باقٍ على سفره، أو في حكم ذلك السفر.

ولكن إذا كانت هذه الحاجة لا تُقضي عادة إلا في وقت طويل كسنة مثلاً، وقد قام بأعمال الإقامة؛ كسكن المثل واتخاذ المتاع فهو مقيم.

وعلى هذا مذهب أبي حنفية وأحمد في قوله الآخر، وهو أن من أقام لحاجة ينتظر نجاحها بلا نية إقامة فهو مسافر، ولو نوى أكثر من مدة الإقامة في المذهبين، ما دام يحتمل قضاء حاجته قبل المدة ([88]).

وهو مذهبُ الشافعي رحمه الله في المحارب في أحد أقواله، وحكاه بعض أصحابه في غير المحارب؛ كالتاجر والمتفقه، وغلَّطهم آخرون ([89]).

وإذا كان سبب الترخص بعد الأربعة ـــ حالَ القتال ـــ هو اضطراب النية فإن طرد هذا السبب يقتضي أن مَنْ وُجدت فيه تلك الحال يُعتبر مسافراً وإن لم يكن في قتال؛ فإنه لا فرق بين المقاتل وغيره في حكم القياس ([90]).

وقد جاء عن مورق أنه سأل ابن عمر فقال: إني تاجر أتنقل في قرى الأهواز؛ فأقيم في القرية الشهر وأكثر، قال: تنوي الإقامة؟ قلت: لا! قال: لا أراك إلا مسافراً، صل صلاة مسافر! ([91])

من نزل مضطراً لعائق لا يدري متى يزول؟:

وذلك كمن حبسه مرض، أو حصره عدو، أو منعته ريح، أو عاقه ثلج أو واد يسيل، وكمن سُجن وهو لا يدري متى يُخلى سبيله.

فقد ذهب كثير من الفقهاء الذين يحددون الإقامة بمدة معينة إلى أن حكم المدة لا يجري في أمثال هؤلاء؛ فيعتبرونهم في حكم السفر ([92])؛ وذلك لتخلف نية الإقامة.

وهو كذلك عند الناس؛ وذلك لأن أكثر أصحاب هذه الأحوال

لا ينوون الإقامة فضلاً عن إرادة مدة طويلة، وغالب حالهم أنهم ينتظرون زوال العائق في مدة يسيرة؛ لذلك فهم باقون على حكم السفر السابق، بسبب عدم النية أو اضطرابها.

النية المستقرة إذا كانت مدتها قليلة:

وإذا نزل المسافر بلداً في مدة قليلة لا يقوم بها وصف الإقامة عرفاً؛ كخمسة عشر يوماً أو عشرين، ونحو ذلك، ولا أهل له فيها؛ فهو باق على حكم سفره، ولو كان جازماً بمكثها؛ لأن الناس لا يعتبرون النازل في مثل هذه المدد مقيماً، ولا يعتبرون مكان نزوله هذا من دور إقامته.

سبيل العلم بالمدة:

وضابط ذلك هو غلبة الظن أو القطع في نية مقدار الإقامة؛ فمتى غلب على ظن النازل أنه يريد مدة طويلة صار مقيماً مع تحقق الأسباب الأخرى، ومتى ظن قِصَر المدة؛ فهو مسافر أو في حكمه، ومن شك في ذلك فهو باقٍ على حكم حاله السابقة وهي السفر.

ومن المعلوم أن الشريعة تبني كثيراً من أحكامها على غلبة الظن.

مدة الإقامة ليست حداً مشتركاً لجميع الأحوال:

ليس لمدة الإقامة حداً معيناً مشتركاً لضبط جميع الأحوال، بل يختلف تأثير المدة باختلاف هذه الأحوال، وليست المدة أيضاً وصفاً يستقل بثبوت وصف الإقامة ولا نفيه؛ فهي لا تؤثر إلا بمشاركة غيرها من الأسباب.

فمن نزل مكاناً غير صالح لإقامة مثله؛ كنزول الحضري في صحراء من الأرض، أو نزول جميع الناس في حال من الاضطراب أو الخوف فهم مسافرون، مهما اجتمعت لهم مدة كثيرة في نزولهم هذا.

وفي المقابل قد تقل المدة ومع ذلك يظل وصف الإقامة عند الناس ثابتاً؛ كمن نزل مكان المثل وسكنه وله فيه زوجة مقيمة؛ فلا تأثير للمدة في هذه الحال، حيث يُعتبر مقيماً مهما قلَّ وقت نزوله.

وبهذا يُعلم أن اعتبار المدة سبباً من أسباب الإقامة العرفية لا يُعارض اعتبار أقوال من حدها بأيام بها أقوالاً مرجوحة.

ووجه ذلك أن المدة عند القائلين بالحدود الزمنية تُعتبر حداً مشتركاً ثابتاً لا يختلف باختلاف الأحوال، مصدره دلالة الشريعة؛ كمدة المسح على الخفين وعِدَدِ النساء، بيد أنها هنا ليست حداً مشتركاً، بل تختلف باختلاف الأحوال، ومصدرها هو العرف.

إيراد وجوابه:

قد يقال: لا فرق بين مدد الإقامة في الشريعة؛ فلماذا يُفَرَّقُ بينها؟

فالجواب هو أنه قد ترجح في هذا البحث أن سبيل ضبط هذه المسألة هو العرف؛ فيكون التفريق بين أحوال الإقامة راجع إلى أهله؛ فلم يُنسب هذا التفريق إلى الشريعة، ونظائر اعتبار المدد والمسافات في فقهها كثير:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير