ففي المدد: طول الفصل بين أعضاء الوضوء، وطول الفصل بين الصلاة وما نُسي منها، ومقدار خطبة الجمعة، وعدد مرات تعريف اللقطة في الحول، وقدر ما بين المرة والتي تليها، وكذلك التراخي في الجمع بين الصلاتين، والتراخي في الشفعة عند من يقول بشرطية الفور فيهما.
وفي المسافات: مسافة السفر، وما يُعتبر به الصف متصلاً بالآخَر، وما يُعتبر به المرء مصلياً إلى القبر، وقدر ما بين المصلي وسترته، وما يُعتبر به تفرق البيِّعين مسقطاً لخيار المجلس في الصحاري.
وقد تقدمت هذه الأمثلة العرفية وغيرها في صحيفة (25).
ويقال لمن يعتبر العرف في ثبوت السفر: إن كل إيراد على الإقامة العرفية لإبطال تأثيرها في حكم الرخصة وارد على السفر العرفي ولا فرق:
فالاعتراض على سببي المكان والمسكن في الإقامة يُعترض بمثله على اشتراط البروز ومفارقة العمران في السفر.
والاعتراض على المدة في الإقامة يُعترض بمثله على المسافة في السفر.
وتأمل هذا في شخصين كل منهما قد برز عن بنيان بلده وفارق ما يُنسب إليه ثم رجعا إليه من نهارهما بلا تزود، وقد سارا على طريق واحدة ووسيلتي نقل متماثلتين، ولكن أحدهما قطع ألف كيل والآخر عشرين كيلاً؛ فالأول ـــ عند الناس ـــ مسافر، والثاني عندهم مقيم؛ فلا فرق بين حاليهما إلا المسافة.
والمدة في الإقامة لا تَخْرُجُ عن هذا المسرب؛ فإذا نزل اثنان سكنَ مثليهما، وأراد أحدهما النزول خمسة عشر يوماً بنية مستقرة لم يكن عند الناس مقيماً بمجرد نزوله هذه المدة، بل يعتبرونه مسافراً، ولو أراد الآخر سنتين مثلاً بنية مستقرة اعتبروه مقيماً.
ولو قالوا بأن السفر العرفي هو مجموع أسباب لا تُجعل فيها المسافة حداً مشتركاً لجميع الأحوال! يقال: والإقامة العرفية هي أيضاً مجموع أسباب
لا تُجعل فيها المدة حداً مشتركاً لجميع الأحوال.
إيراد آخر وجوابه:
لو قيل: لا نجد فرقاً بين من نزل بلداً لعلاج أو زيارة أو سؤال أو تجارة في مدة يسيرة ـــ ممن اُعتبر هنا مسافراً ـــ وبين من نزل البلد للدراسة، إذْ كلٌ من الفريقين ينتظر انتهاء مهمته، ولو حصل لكل منهما الرجوع إلى بلده فوراً لفعل؛ فيكون حكم الحالين واحداً، وهو مشروعية الترخص.
فالجواب أن يقال: لو كان تعليق السفر بتنجيز الحاجة هو علة الرخصة لاعتُبر هؤلاء المغتربون من المسافرين بلا ريب، بيد أن هذا الوصف ـــ كما تقدم ـــ لا يصلح أن يكون سبباً للرخصة، وإنما سببها الصحيح هو وجود السفر العرفي، أو ما يُلحق به من أحوال الاضطراب وسبب العزيمة هو وجود الإقامة العرفية بحدودها المعلومة عند الناس.
فمن أقام في مدة قليلة ـــ أو في مدة كثيرة ولكنه يتوقع قضاء حاجته كل وقت في مدة قليلة ـــ فليس مقيماً عند الناس؛ لاضطراب حاله؛ فهو باق على حكم سفره، بخلاف من غلب على ظنه طول المكث في مكان المثل وسكنه بنية مستقرة؛ فهو عندهم مقيم.
فسبب التفريق بين الحالين ـــ إذاً ـــ هو رأي الناس العرفي فقط.
السبب الثاني: صلاحية المكان للإقامة.
فالإقامة لا تكون إلا في مكانها المعتبر المعتاد، وإلا فالنازل مضطرب منزعج؛ فالمكان المعتاد للحضر ـــ مثلاً ـــ هو القرى والمدن، ومتى ما تحول هذا الحضري عن عادته في مكان الإقامة لم يره الناس مقيماً.
وإذا كنا لا نتصور ابتداء السفر إلا في المكان المعتبر وهو الصحاري والفضاء فإن الإقامة لا تُتصور أيضاً إلا في مكانها المعتاد، وهو المدن والقرى لأهلها.
فمن نزل مكاناً غير صالح للإقامة عادةً فهو مسافر مهما طال مكثه؛ وذلك لأن المدة ليست معيار الإقامة الوحيد.
والذي يعوِّل على المدة في إثبات الإقامة دون اعتبارات أخرى هو كالذي يعول على غرس الفسائل في إثبات الإحياء العرفي دون أن يشترط صلاحية الأرض أو مناسبة الهواء لغرس مثل هذا الشجر؛ فإن الناس لا يَعتبرون مثل هذا محيياً؛ لأن هذه الفسائل لا تثمر في الحالين.
والإقامة بمعناها العرفي لا تخرج عن هذه الحدود والاعتبارات.
وعلى اشتراط صلاحية المكان لصحة الإقامة قولُ كثير من أهل العلم:
¥