فقد ذكر الكاساني شروط الإقامة المعتبرة عند أبي حنيفة وعدَّ منها المكان الصالح للإقامة، ثم قال: (فهو موضع اللبث والقرار في العادة نحو الأمصار والقرى، وأما المفازة والجزيرة والسفينة فليست موضع الإقامة، حتى لو نوى الإقامة في هذه المواضع خمسة عشر يوماً لا يصير مقيماً .. ) ([93]).
وقال ابن الهمام: ( .. أما من ليس من أهل البادية ـــ بل هو مسافر ـــ فلا يصير مقيماً بنية الإقامة في مرعى أو جزيرة) ([94]).
وهذا هو أحد قولي الشافعي، واختاره الغزالي؛ فقد عدَّ من شروط جريان حكم المدة عند الشافعية المكانَ الذي تُتصور فيه الإقامة، ثم قال:
( .. فإن كان لا يُتصور فالأصح أنه يترخص؛ لأن العزم فاسد) ([95]).
وكذلك الأمر في مذهب أحمد؛ فقد قال في "المبدع": ( .. إذا نوى الإقامة بموضع يتعذر فيه الإقامة كالبرية لا يقصر؛ لأنه نوى الإقامة، والمذهب: بلى؛ لأنه لا يمكنه الوفاء بهذه النية فلغت .. ) ([96]).
وقال: (يشترط في الإقامة التي تقطع السفر ـــ إذا نواها ـــ الإمكان، بأن يكون موضع لبث وقرار في العادة) ([97]).
بل جاء في الرواية الثانية عن أحمد أنه لا يلزم المرء ترك الرخصة إلا في بلد تُقام فيه الجمعة ([98]).
وهو قول مالك في دار الحرب للعسكر؛ فلا يجري فيها عنده حكم المدة ([99]).
والمكان وإن كان وطَناً فلا تأثير له عند بعض أهل العلم إذا مرَّ به صاحبه عابراً؛ كما جاء ذلك في الرواية الثانية عن أحمد ([100]).
السبب الثالث: المسكن.
فالمسكن سبب من أسباب التعلق بمكان النزول، سواء كان ذلك بشرائه أو استئجاره، بيد أنه لا يستقل بإثبات الإقامة.
والناس يختلفون في المسكن بداوةً وتحضراً وغنىً وفقراً؛ فالبدوي يسكن عادةً خيامَ الشعر، في بطون الأودية ومنابت الكلأ ويحتمل شعث ذلك وجَهْده؛ فهي مكان وسكن مثله، ولغيره قد تُعتبر مكان وسكن مسافر.
وقد ذكر الكاساني أن بعض العلماء يقول في الأعراب الذين يسكنون بيوت الشعر بأنهم لا يكونون مقيمين أبداً؛ لأنهم في مفازة، وهي ليست موضع الإقامة عادة، هكذا حكاه عنهم، ثم عَقَّبَ على ذلك بقوله: (والأصح أنهم مقيمون؛ لأن عادتهم الإقامة في المفاوز دون الأمصار والقرى) ([101]) اهـ.
ووجود الدور والعقارات مملوكة أو مستأجرة في بلد ليست دليل الإقامة مطلقاً، بل لا بد من أوصاف وأحوال أخرى؛ كالمدة، أو إقامة زوجة
فيها؛ فبعض الأثرياء يوجد له في كل حاضرة أو مدينة كبيرة بيت أو قصر؛ فلا يُعتبر عند الناس مقيماً إذا نزلها في إجازة أو نحوها مدةً يسيرة.
قال الإمام الشافعي: (قد قصر أصحاب النبي e معه عام الفتح وفي حجة أبي بكر t ولعدد منهم بمكة دار أو أكثر وقرابات) ([102]) اهـ.
وفي انقطاع السفر بوجود الدور قولان في مذهب أبي حنيفة ([103]).
ووجود الدار قد يكون هو المؤثر في ثبوت وصف الإقامة إذا لم يكن له مأوى سواه، وإن كان لا ينزله إلا أياماً معدودة في السنة؛ كربابنة السفن وسائقي الشاحنات وأمثالهم؛ وذلك لأن هذه هي دور إقامتهم ([104]).
السبب الرابع: التأهل.
والإتمام بالتأهل هو قول الجمهور ([105]). وله عند أهل العرف أحوال:
فإذا وُجِدَ مكان المثل وسكنه وله فيه زوجة مقيمة فلا اعتبار للمدة مطلقاً؛ فمهما نزل هذا البلد فهو مقيم، وإن كان نزوله ساعات.
فقد ظهر هنا أثر التأهل، وهو إلغاء تأثير المدة.
ويسقط عند أهل العرف تأثير التأهل إذا كانت الزوجة تقيم وتظعن مع زوجها؛ وذلك لأنه يتبعها في حكم الإقامة إذا كانت مقيمة؛ فإذا كانت هي مسافرةً انقطع تأثيرها في حال زوجها.
قال ابن القيم: ( .. والمسافر إذا تزوج في طريقه لم يثبت له حكم الإقامة بمجرد التزوج، ما لم يزمع الإقامة وقطع السفر) ([106]).
كما أن التأهل لا يُعتبر مؤثراً إذا كان لا يأوي إلى بيت الزوجية المعتاد؛ كأن يكون نزوله عند والدها مدة يسيرة، وله مكان إقامة آخر.
¥