إن الإقامة والسفر إنما هما معنيان لا يُحَدَّان بما تُحدُّ به الأجسام؛ كالذرع أو الوزن أو الكيل؛ فلا يمكن فيهما وضع حد واحد أو اثنين ينتظم جميع الأحوال والأزمنة والأمكنة لا يختلف باختلاف شيء من ذلك؛ فكما أن السفر هو مجموع أعمال وأحوال يصير بها المرء مسافراً فإن الإقامة أيضاً مجموع أعمال وأحوال يصير بها المرء مقيماً.
فإذا اجتمعت أسباب وشروط الإقامة فقد تحقق في النازل أعلى درجات الإقامة والطمأنينة، وإذا اجتمع له جميع أسباب السفر المذكورة ـــ ولم يقع له أي سبب من أسباب الإقامة ـــ فقد اجتمع له أعلى درجات وصف السفر، وبين هاتين الحالين مراتب عديدة.
فالعزوبة مثلاً لا تأثير لها عند أهل العرف إذا كان المسافر قد نزل في سكن المثل ومكانه ومدته؛ كحال العمال المغتربين الذي لم يتأهلوا، حيث يعتبرهم الناسُ مقيمين.
والمدة ـــ أيضاً ـــ لا تأثير لها إذا كان للنازل زوجة مقيمة في سكن المثل في بلد النزول فيُعتبر مقيماً، ولو كان نزوله يوماً واحداً.
فلعلك لحظت من مثالي التأهل والمدة أنه لا يُشترط من أجل قيام وصف الإقامة اجتماع هذه الأسباب والشروط كلها؛ كما أن كل وصف
لا يستقل بإثبات الإقامة أو السفر وحده دون سبب آخر.
3. أن الإقامة من الألفاظ التي يختلف معناها عند الجمع والتفريق:
قد يقول قائل: لا تمكن معرفة العرف في الإقامة؛ فنحن نصف النازل ساعة من نهار بأنه قد أقام في بلد كذا؛ كما أننا نسمي المستوطن
مقيماً؛ فلا يمكن أن نضبط هذه المسألة!؟
فالجواب: أنه ينبغي في ذلك مراعاة معنى لفظ الإقامة عند إفراده
أو ذكره مع غيره؛ وذلك لأن اصطلاحات الاستيطان والإقامة والنزول من الألفاظ التي قد تختلف معانيها عند الجمع والتفريق؛ فقد يُعَبَّر ببعضها عن الآخر عند إفراد كل لفظ، ولكن عند جمعها يصبح لكل واحد منها حده الخاص به، والفرق بينها يظهر عند مقارنة لفظ النزول بلفظ الإقامة في شيء من الأمثلة؛ فإذا كان سؤالك لأهل العرف عن حال معينة بقولك: هل هو مقيم أو نازل وجدت جواباً لسؤالك، ورأيتهم ـــ حينئذ ـــ يفرقون بين الحالين، ولكنك حين تسأل عن كل واحد من اللفظين منفرداً فقد يُعَبَّر بأحدهما عن الآخر، وتأمل هذا فيما يقوله أهل العرف عن ثلاثة أشخاص:
الأول: متأهل في بيت مستأجر يزمع البقاء سنتين من أجل عمله أو دراسته مثلاً بنية مستقرة وحال مطمئنة. والثاني: متأهل في بيت مستأجر أو مملوك لا يرغب ترك بلده إلا بإكراه ونحوه. والثالث: من نزل مدينة للإشراف على تجاراته مدة شهر مثلاً دون تأهل أو سكن معلوم.
فهم يسمون الأول مقيماً والثاني مستوطناً والثالث نازلاً، ولا يقبلون عند جمع هذه المصطلحات أن يُبدل شيء منها بالآخر.
4. أن أكثر المسائل العرفية في السفر والإقامة ظاهرة جلية:
إن أغلب أحوال الناس في الإقامة واضحة بينة بالنظر الظاهر عند أهل العرف لا تحتاج إلى حفظ مثل هذه الأسباب؛ وذلك كحال المستوطنين في بلدانهم، وحال المغتربين مدة طويلة من الموظفين والمدرسين والطلبة؛ فبمجرد نظرة عجلى لهؤلاء يعطيهم الناظر حكم الإقامة دون تردد، ودون تكلف التعرف على أسباب الإقامة المذكورة هنا.
ومثل أحوال الإقامة في الوضوح أكثر أحوال السفر، حيث إن حال الشخوص أثناء الطريق ظاهرة بينة؛ كما أن أحوال النزول التابعة للسفر واضحة كذلك.
ولكن يبقى بين الحالين مسائل قليلة مشكلة نسبة إلى سائر أحوال الناس وأوقاتهم؛ فكانت هذه الأسباب المذكورة في هذا البحث محاولة لضبط هذا القليل المشكل فقط.
وقد جعلت هذا تنبيهاً حتى لا يقول قائل: إن عامة الناس لا يستطيعون تطبيق بعض هذه الأسباب؛ فكيف يُناط بها تكليف؟
فيقال له: إن هذا غير صحيح؛ لأن غالب هذه المسائل واقع تحت مدارك الناس وقدرتهم.
5. العمل عند المسائل العرفية المشكلة:
لا تخلو الإقامة العرفية من أحوال ثلاث:
الأولى: حال عليا في ثبوت وصف الإقامة، يتفق أهل العرف أو أكثرهم على وجود هذا الوصف؛ كحال المستوطنين، والمقيمين من أجل وظائفهم أو دراستهم في مكان المثل وسكنه ومدته الطويلة بنية مستقرة.
والثانية: حال عليا في انتفائه، يتفق أهل العرف أو أكثرهم على نفي وصف الإقامة؛ كنزول المسافر يومين أو ثلاثة لعلاجٍ أو إنجازِ معاملة.
¥