تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

والثالثة: حال مشكلة بسبب تجاذب وصفي السفر والإقامة؛ كذهاب المرء منتدباً فترة شهرين مثلاً، وقد سكن شقة مفروشة بعقد شهري

أو بمدة مكثه المذكورة، دون تأهل؛ فهذه تتنازعها الحالان، وقد تثير عند الناس حيرة وتردداً.

فهذه أحوال ثلاث لا رابع لها؛ فيقال عنها: إن ما حكم أهل العرف بإثباته أو نفيه أخذنا فيها بحكمهم نفياً أو إثباتاً، وبنينا عليه حكم الرخصة

أو العزيمة؛ فهذا حكم الحالين الأُوْلَيَيْن.

وأما الحال الثالثة، وهي المشكلة فلها مخرجان فقهيان:

المخرج الأول: استصحاب الأصل الأول، وهو انشغال ذمة العبد بالصلاة تامة ووجوب الصوم في نهار رمضان؛ فمادام شاكاً فعليه إبراء ذمته من ذلك؛ فيُمنع من الترخص في حال وجود الشك.

المخرج الثاني: أن يستصحب الحال الأخيرة من سفر أو إقامة؛ فإن كان مقيماً وحصل التردد في وصف السفر بنى على أصل الإقامة. وذلك كمن كان في دار إقامته وخرج على سيارة لزيارة قريب له في قرية مجاورة تبعد أربعين كِيلاً في طريق معبد دون حمل زاد أو مزاد، وكون ذهابه ورجوعه في يوم واحد؛ فتردد هل يُعتبر مسافراً أو لا؟

فهذا وإن كان شاخصاً مفارقاً لبلده فيما لا يشبه هيئة المقيمين إلا أن

قِصَرَ المسافة وقلة الوقت منعت قيام وصف السفر؛ فلذلك يَعتبرُ نفسه مقيماً استصحاباً لحكم الحال السابقة؛ فهذا مقيم حكماً ([113]).

وأما استصحاب أصل السفر فكمن سافر مسافة تزيد على ألف كيل من الدمام إلى مكة مثلاً؛ فهذا مسافر قطعاً، ولكن أشكل عليه نزوله في مكة مدة شهر في فندق هل يُعتبر إقامة أو لا؟ ومثل ذلك حضري نزل ثلاثة أشهر في صحراء من الأرض، أو في مدينة، ولكن في غير سكن معلوم.

فهذا وأمثاله وإن كانت حاله لا تشابه هيئة المسافرين بتركه النقلة ـــ التي هي أبرز أوصاف السفر ـــ إلا أن الناس لا يسمونه مقيماً أيضاً؛ وذلك لعدم اكتمال الأسباب التي يقوم بها وصف الإقامة؛ فهو إذاً مستصحبٌ لحكم حاله السابقة وهي السفر؛ فهذا مسافر حكماً.

قال الحموي الحنفي: ( .. مقتضى قولهم الأصل بقاء ما كان على ما كان .. أن يستمر حكم السفر مع ا

وهذا المخرج ـــ وهو استصحاب حال السفر وأحكامه عند الشك في حصول الإقامة ـــ هو أرجح القولين، وهو وجه عند الشافعية، ذكر ذلك النووي، وعلَّل هذا الوجه بقوله: ( .. لأنه شاك في زوال سبب الرخصة، والأصل عدمه) اهـ ([115]).

و يدل على صحة قاعدته قوله e فيما جاء في الصحيحين لمن شك في الحدث: "لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً". فلم يجعل الشك مؤثراً في حكم الطهارة السابقة. وهذا الحديث هو أصل قاعدة اطراح الشك العارض، واستصحاب حكم الحال السابقة.

لذلك لم يأمر الله عز وجل بإتمام الصلاة إلا بعد حصول الإقامة؛ فقال جل شأنه: "وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوْا مِنَ الصَّلاةِ " ثم قال: "فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيْمُواْ الصَّلاةَ " الآية.

فإذا نزل المسافرُ في غير مكان المثل، أو دون سكن، أو في مدة قصيرة، أو طويلة بلا نية مستقرة فلا يُعدُّ مقيماً؛ فهو إذاً باق على حكم سفره.

والاحتياط في مسائل الشك هو من تمام الديانة؛ فإذا تردد المرء هل يُعتبر مقيماً أو مسافراً؟ فالأحوط له هو عدم الترخص بقصر ولا فطر. هذا الاحتياط إنما هو في مسائل الشك التي يتساوى فيه حالا السفر والإقامة، أما الشك اليسير المعارض ليقين أو غلبة ظن فلا تعويل عليه ([116]).

فقه ما جاء في بعض الأخبار من الترخص مدداً طويلة

تقدم في عرض الأقوال ذكر بعض الأخبار التي ترخص فيها النبي e والصحابة برخص السفر مدداً طويلة، وقد كانت من أقوى أسباب خلاف العلماء في هذه المسألة، وبمعرفة فقهها لن يبقى فيها إشكال إن شاء الله.

فعند تأمل هذه الأخبار تجد أنها لا تخرج عن أحوال خمس كلها تُعتبر من السفر أو ملحقة به حكماً؛ لعدم تحقق الإقامة بوصفها العرفي:

الحال الأولى: عدم صلاحية المكان للإقامة عادةً، والإقامة عند أهل العرف ـــ مهما كانت مدتها ـــ لا تصح إلا في مكانها المعتبر، وعلى هذا الحكم العرفي قولُ أبي حنيفة والقول الآخر لكل من الشافعي وأحمد.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير