تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

والحال الثانية: عدم وجود نية الإقامة المستقرة التي لا اضطراب فيها ولا تردد. ونية الإقامة المستقرة شرط معتبر عند العلماء لحصول الإقامة؛ لذلك حكم الحنفية والحنابلة في الرواية الثانية عن أحمد بعدم تأثير إرادة مدة الإقامة في المذهبين ولو نوى إقامتها؛ وذلك إذا نزل المسافر لحاجة، وكان يحتمل قضاء حاجته قبل المدة؛ فاعتبروه في حكم السفر؛ كما تقدم بيانه.

وهذا الاضطراب يكثر جداً في أحوال نزول المسافرين قديماً وحديثاً، ومَنْ هذه حاله فهو مسافر، أو هو مستصحب لحكم السفر.

ومن أمثلة الاضطراب هذه حالُ الجهاد، حيث لا توجد نية مستقرة عند المجاهدين للإقامة، سواء كان ذلك في الطريق أو في مكان المعركة؛ فلا يُعتبر النازل في هذه الحال مقيماً عند الناس، مهما طال مكثه، وعلى ذلك مذاهبُ كثير من أهل العلم؛ كما تقدم بيانه.

ومن أهمل هذه الحال الثانية أشكلت عليه تلك الأخبار؛ لظنه أن الصحابة الذين جاء عنهم الترخص قد نووا هذه المدد الطويلة عند نزولهم، وأنهم في حال من الطمأنينة والاستقرار؛ فبنى على هذا الظن أنهم مستقرون كاستقرار المقيمين؛ فرأى أنها تصلح دليلاً لقول من اعتبر الاستيطان حداً، أو لقول من جعل الحد إرادة الوقت أو إنجاز الغرض.

بيد أن النازلين في هذه الأخبار كانوا في اضطراب وتردد وانزعاج؛ فلم تحصل لهم الإقامة في أبرز سماتها عند أهل العلم، وكذلك عند الناس.

والحال الثالثة: قِصَر مدة النزول في بعض هذه الأخبار؛ كأربعة أيام وتسعة عشر، مما لا يُعتبر معها النازل مقيماً عرفاً، ولو بنية مستقرة.

والحال الرابعة: عدم وجود مسكن المثل والإقامة لا تُتَصور إلا به؛ فمن نزل بلداً ولم يتخذ مسكنه المعتبر عادة فإن الناس لا يسمونه مقيماً.

والحال الخامسة: أخبار لم يوجد فيها ما يُثْبِتُ وصف الإقامة العرفي، ولا ما ينفيه، والأصل في هذه الحال هو بقاء السفر أو بقاءُ حكمِه حتى تَثْبُتَ الإقامة بأسبابها العُرفية، وهذه قاعدة مهمة لفهم مثل هذا النوع من الأخبار.

وهذا عرض للأخبار التي وقع فيها الترخص:

فمن ذلك: نزول النبي e في تبوك عشرين يوماً، وفي مكة عام الفتح تسعة عشر يوماً؛ فقد كان نزوله في مدة يسيرة بلا نية مستقرة؛ كما أنه كان في حال حرب، ولم يوجد في هذه الحال مسكن المثل.

قال الإمام ابن تيمية: ( .. وقد أقام المهاجرون مع النبي e عام الفتح قريباً من عشرين يوماً بمكة، ولم يكونوا بذلك مقيمين إقامة خرجوا بها عن السفر) ([117]).

وقال ابن القيم عن إقامة النبي e في تبوك: ( .. وهذه الإقامة في حال السفر لا تَخْرُجُ عن حكم السفر، سواء طالت أو قصرت، إذا كان غير مستوطن، ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع) ([118]).

* * * * *

ومن هذه الأخبار المشكلة ترخص بعض الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم في حال الحرب؛ كأثر أنس t في ترخصه في نيسابور،

وفي رامَهُرْمُز، وابن عمر t في أذربيجان، وعبدالرحمن بن سمرة t في كابل، وسعد بن مالك t في عمَّان، وأبي جمرة في خراسان.

فهذه غزوات الصحابة، وتلك مواطئ أقدامهم مجاهدين فاتحين.

فأحوال الحرب هذه ليست ظرفاً للإقامة المعتبرة عرفاً، والمجاهدون فيها بين خوفٍ، أو حصارٍ عسكري، أو فتحٍ للبلدان، أو تجهيزٍ للجيوش، أو انتظارٍ للسرايا، أو نزولٍ في مدن الثغور لترقُبِ مددٍ أو إذنٍ بقتال.

وهذه الأحوال لا يُحْضِرُ المجاهدون معهم فيها أهلاً ولا مالاً، ولا يتخذون منزلاً ولا مستقراً؛ فمن ذا يقول: إن حقيقة شرعيةً أو لغوية أو عرفية تقضي أن مثل هذه الحال إقامة؟

وقد يُخَرَّج ترخصهم في تلك الأحوال على القاعدة التي ذكرها الحنفية والمالكية، وهي أن النزول في دار الحرب للعسكر لا يُعتبر إقامة، وإن جاوزت المدة المعتبرة في المذهبين، وهذه الغزوات لم تكن إلا في دار حرب.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير