تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ثم إن النزول في أكثر هذه الأحوال لا يتوجه إلى مدد طويلة غالباً؛ فالمجاهدون وإن كانوا عادة ينتظرون المدد أو الإذن بالقتال أو ذوبان الثلج أو فك الحصار، ونحو ذلك من أحوال الجهاد إلا أن هذه الأحوال لا تخلو من ترقب لزوالها في وقت يسير عرفاً؛ كعشرين يوماً أو ثلاثين أو أربعين؛ كما أن المجاهد لا يخلو أيضاً من تلمس أنواع الحيل والمخارج من مثل هذه الأحوال، وطلب هذه المخارج لا يجعل قصده للمدة عند النزول يتوجه إلى وقت طويل، ولكن قد لا تفلح حيلته فيسعى لأخرى، وهكذا حتى يتمادى به الأمر إلى مثل هذه المدة الطويلة؛ كما أن كل فرد من المجاهدين في حال تأهب أن يُرْسَل في سرية استطلاع أو مدد أو حراسة أو بريد؛ فليست هذه حال المقيم المطمئن، بل هي حال المسافر المضطرب.

فمادام أن هذه هي أحوال الجهاد فلم يتحقق قصد هذه المدد الطويلة، وغاية ما في الأمر أن الصحابة أخبروا ـــ بعد قفولهم ـــ أنهم مكثوها؛ فلا تعتبر هذه الأخبارُ معارضةً للتعليل بالوصف العرفي.

وحتى لو أثبت مثبتٌ في بعض الأخبار أنهم قصدوا المدة الطويلة عرفاً فلا بد من تحقق بقية أوصاف الإقامة؛ كصلاحية المكان والمسكن عادة.

* * * * *

ومن هذه الأخبار نزوله e في حجة الوداع؛ فقد دلت الأحوال أن إقامته ليست إقامة عرفية؛ فلم يكن له بيتٌ يعرفه الناس؛ كالذي يُعرف

عن المقيم، ولو سألت الناس: هل هو مقيم بمكة؟ أو أنها صارت دار إقامة له؟ لكان الجواب بالنفي.

وحين سأله أسامة بن زيد t قائلا: أتنزل في دارك بمكة؟ قال: "وهل ترك عقيل من رباع أو دور"؟ ([119]).

قال ابن تيمية: (وأما في حجة الوداع؛ فقد كان النبي e آمناً، لكنه لم يكن نازلاً بمكة، وإنما كان نازلاً بالأبطح خارج مكة هو وأصحابه؛ فلم يكونوا نازلين بدار إقامة، ولا بمكان فيه الزاد والمزاد .. ) ([120]) اهـ.

فقد كان نزول النبي e ملحقاً بالسفر؛ وذلك لقِصَر المدة، ولعدم السكن المعتاد لمثله، وكون المكان ليس مكان إقامة معتبر؛ فمَنْ كانت هذه حاله لا يُسمى مقيماً؛ فالنازل فيها باقٍ على حكم سفره السابق.

* * * * *

وثمة أخبارٌ دلت القرائن على عدم تحقق الإقامة بمعناها عند أهل العرف:

فمن ذلك إقامة مسروق بن الأجدع رحمه الله بالسلسلة سنتين يقصر الصلاة؛ فليس فيها ما يدل على أنه اجتمع لمسروق ما يُسمى عند أهل العرف إقامة.

بل ظهرت قرائن تدل على عدم توفر أسباب الإقامة العرفية؛ فلم تثبت صلاحية المكان، ولا إرادة المدة الطويلة، ولم يكن في نزوله هذا متأهلاً:

فأما المكان: فقد بحثت عن هذه البقعة التي نُصب فيها مسروقُ والياً والمسماة "السلسلة" في مظانها في مشهور كتب معاجم البلدان والتاريخ واللغة فلم أجد لها ذكراً.

ثم وجدت في "المُغْرِب" ما يدل على أنها ليست مدينة أو قرية، حيث قال عنها المصنف بعد ذكر ولاية مسروق عليها: (هي التي تُمد على نهر أو على طريق يُحبس بها السفن أو السابلة؛ ليؤخذ منهم العشور، وتسمى المأصر .. ) ([121]).

وقال الجصاص في "المأصر": (إنه حبل يُمد على طريق أو نهر تحبس به المارة، ويعطفون به عن النفوذ؛ ليؤخذ منهم العشور والمكس) ([122]) اهـ.

وما جاء في تعريف صاحب "المغرب" بقوله: (هي التي تُمد) يدل على أن السلسة ليست مدينة أو قرية، وإنما هي حاجز يمنع المسافرين من العبور إلا بعد أداء الحقوق، حيث كانت تؤخذ العشور من النصارى والزكوات من المسلمين، وقد جُعلت ولاية هذا العمل لمسروق.

فإذا كانت في صحراءَ أو شاطئٍ بعيد عن البنيان؛ كما هو الظاهر

ـــ حيث لا تُنصب مثل هذه السلاسل والحواجز في المدن ـــ فلا يُعتبر النازل فيها أنه في دار إقامة؛ فقد تخلف هنا شرط صلاحية المكان للإقامة عرفاً وعادة؛ فلا يُعتبر مقيماً وإن طال مكثه؛ كما هو مذهب الحنفية والشافعية في القول الآخر والحنابلة في الرواية الثانية.

وأما المدة الطويلة: فلم يظهر هنا من حاله أنه نواها عند النزول، وغاية ما هنالك أنه مَكَثَ هذه المدة يترخص دون دلالة على قصدها عند قدومه؛ فلعله ترخص لكونه يترقب رجوعه إلى أهله في مدة قصيرة عرفاً.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير