ومما يؤكد احتمال اضطراب حاله أن عمله هذا لم يكن باختياره، حيث أكرهه عليه واليه زياد ([123])؛ فلعله كان ينتظر أمر إعفائه من عمله مع كل مسافر أو بريد؛ فلم يتخذ لأجل ذلك أسباب الإقامة المعتادة؛ فتكون نيته في المكث مضطربة مترددة، حتى اجتمعت له هذه المدة؛ فإذا كانت هذه حاله في الاضطراب فإن الناس لا يعتبرونه مقيماً.
وأما التأهل: فإن الذهبي ذكر ما يدل على عدم تأهله فقد أسند إلى أبي الضحى قال: غاب مسروقُ عاملاً على السلسلة سنتين، ثم قدم فنظر أهلُه في خرجه فأصابوا فأسا؛ فقالوا: غبت ثم جئتنا بفأس بلا عود! قال: إنا لله! استعرناها نسينا نردها ([124]). وهذا يدل على عدم تأهله هناك.
وفي هذا الخبر أيضاً ما يدل على زهده وتخففه وتعففه في ولايته رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
وأما المسكن: فالغالب في حال من نزل مكاناً غير صالح للإقامة أنه لا يتخذ سكن المثل؛ كبيوت الحجر والمدر، وإنما يسكن القباب أو الخيام.
فمَنْ لم يُردِ الإقامة مدة طويلة بنية مستقرة ولم يتخذ مكان المثل ولا سكنه متأهلاً فلا يُعتبر عند الناس مقيماً، ولا عند كثير من أهل العلم.
* * * * *
ومِنْ هذه الأخبار ما لم يتحقق فيها وجود وصف الإقامة، والأصول تقضي في هذه الحال ببقاء وصف السفر، حتى يُثْبِتَ المخالف وجود أسباب الإقامة المعلومة عند الناس.
ومِنْ أمثلة هذه الحال ما جاء عن أبي المنهال الذي قال لعبدالله بن عباس رضي الله عنهما: إني أقيم بالمدينة حولاً لا أشد على سير؟ فقال: صل ركعتين!
فليس فيه ما يدل على حال أبي المنهال، وهل هو متلبس بوصف الإقامة العرفي أو لا؟ فقد يكون من التجار الذين ينزلون البلد لبيع بضاعتهم، وشراء بضاعة المدينة لنقلها إلى بلده؛ كحال كثير من التجار في القديم والحديث، حيث إن بعضهم يقصد بلداً بعيداً للتجارة؛ فينزله لبيع بضاعته أو انتظار بضاعة قادمة، وهو يتوقع الخروج كل عشرة أيام أو عشرين أو ثلاثين، ولكن قد لا يحصل له مقصوده في مثل هذا الوقت القريب؛ فيتمادى به الأمر إلى مدة مثلها حتى تجتمع له مدة كثيرة، دون أن يتأهل أو يتخذ سكن المثل ومتاعه؛ لأنه يرجو الخروج كل حين في حال من الاضطراب؛ فمن كانت هذه حاله لا يعتبره الناس مقيماً.
وتأمل هذا في عبارته في سؤاله: (لا أشد على سير)؛ فمَنْ يقول هذا لا يُتصور مِن حاله أنه مقيم في بيت مملوك أو مستأجر في بعض أحياء المدينة ينوي المكث فيه سنين؛ فلو كان على هذه الحال المطمئنة لم يحتج أن يقول هذه العبارة، وإنما حاله حالُ مضطرب متردد؛ فربما كان لا يأوي إلى سكن معتاد؛ فرخص له ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأنه رآه غير مقيم.
ولعل حال أبي المنهال هذه كحال مورِّق حين سأل ابن عمر فقال: إني تاجر أتنقل في قرى الأهواز؛ فأقيم في القرية الشهر وأكثر، قال: تنوي الإقامة؟ قلت: لا، قال: لا أراك إلا مسافراً، صل صلاة مسافر! ([125]).
وليس لأحد أن يقول: ما الدليل على وجود هذا التردد والاضطراب في مثل هذه الأحوال، ليس له ذلك لأن الدليل إنما يُطلب ممن يدعي وجود الطمأنينة المعتادة؛ وذلك لأن الأصل هو بقاء السفر، بل إن الظاهر من أحوال المجاهدين وأصحاب الأعمال الطارئة هو عدم وجود أسباب الاستقرار والطمأنينة التي يصير بها المسافر مقيماً.
وإذا نظرت في أحوال المغتربين من الطلبة والموظفين لم ترَ أنهم قد تلبسوا بشيء من أسباب بقاء السفر المذكورة في هذه الأخبار.
تحرير كلام بعض أهل العلم في هذه المسألة
اُشتُهِر عند بعض طلبة العلم أن قول ابن تيمية وابن القيم وغيرهما في هذه المسألة هو أن علة الترخص هي إرادة النازل وقتاً محدداً أو إنجاز غرضٍ
معين؛ كالقول الخامس، وفي هذا المبحث أذكر ما وقفت عليه من أقوالهم:
كلام ابن تيمية ([126]):
لم يظهر أن شيخ الإسلام ابن تيمية ـــ فيما وقفت عليه من كلامه ـــ قد قال بهذا القول، حيث لم يقرر ذلك في تخريج المناط ولا في تحقيقه:
ففي الاستنباط وتخريج المناط: لم يقل: إن علة الترخص هي كون إقامة النبي e مقيدة بعمل ينتهي أو زمن ينتهي، بل كان مدار كلامه على تحقق مطلق الوصف سفراً أو إقامة؛ كما سيأتي ذلك قريباً.
¥