وفي تحقيق المناط: فإنه لم يقل أيضاً بالنص أو المعنى: إن المغترب وأمثاله لهم الترخص برخص السفر، وإن نزل أحدهم في دار غربته إقامة عرفية، ولم أَرَ بعد طول بحث وسؤالٍ لأهل العلم أنه أفتى بذلك أو مثَّل له.
بل ظهر في فتاواه أنه لا يرى الترخص لمن يقيد إقامته بنهاية وقت أو غرض، حيث أفتى أهل البادية؛ كأعراب العرب والأكراد والترك وغيرهم الذين يُشتُّون في مكان ويُصيِّفون في مكان أنهم لا يترخصون في مشتاهم
ومصيفهم، وإنما لهم أن يترخصوا في حال السفر بينهما فقط ([127]).
فهؤلاء ينزلون المكان بنية مغادرته بعد مدة معلومة هي ستة أشهر تقريباً، ولم ير أن لهم الترخص.
كما أفتى ملاح السفينة بعدم الترخص إذا كان معه امرأته وجميع مصالحه ([128])، رغم أنه يضرب البحر بنية العودة إلى وطنه بعد فصل أو فصلين أو سنة أو أكثر من ذلك بقليل أو كثير.
ومن المعلوم أن الملاحين والرعاة أحوج إلى الرخصة من الطلبة المغتربين وأمثالهم من العمال والموظفين؛ وذلك لكثرة تنقلهم واضطراب حالهم.
تحرير قول ابن تيمية في المسألة:
وقد ظهر من كلام الإمام ابن تيمية الله أنه يرى أن تحقق الوصف العرفي للإقامة قاطع للسفر ورخصه؛ وذلك من وجوه:
الوجه الأول: اعتباره للاسم المطلق للإقامة:
فقد ساق اسم الإقامة في كلامه عن قاعدة الأسماء المطلقة التي سبيلها العرف عنده؛ كالخفاف التي يُمسح عليها وحقيقة الماء الذي يُرفع به
الحدث، ثم قال: ( .. ومن ذلك أنه علَّق الحكم بمسمى الإقامة؛ كما علقه بمسمى السفر، ولم يُفَرِّقْ بين مقيم ومقيم .. ) ([129]).
وقال في موضع آخر بعد تقريره أن الإقامة لا تُحد بأربعة أيام قال بعد ذلك مباشرة: ( .. ما أطلقه الشارع يُعمل بمطلق مسماه ووجوده، ولم يجز تقديره وتحديده بمدة .. ) ([130]).
الوجه الثاني: كلامه في السفر.
لا يستقيم فهمُ كلام الإمام ابن تيمية في الإقامة إلا بالنظر في كلامه في السفر؛ فالسفر والإقامة عنده نقيضان لا يجتمعان معاً ولا يرتفعان معاً؛ كما يقول الأصوليون.
فوجود الإقامة بمعناها العرفي نفي للسفر بمعناه العرفي؛ كما هو ظاهر؛ فمن كان مقيماً عرفاً فليس بمسافر في عرف الناس أيضاً؛ فلا رخصة له.
وتأمل هذا في كلامه:
يقول رحمه الله: (وأما الإقامة فهي خلاف السفر؛ فالناس رجلان مقيم ومسافر، ولهذا كانت أحكام الناس في الكتاب والسنة أحد هذين الحكمين إما حكمُ مقيمٍ، وإما حكم مسافر) ([131]).
ويقول: ( .. والقصر معلق بالسفر وجوداً وعدماً؛ فلا يصلي ركعتين إلا مسافر، وكل مسافر يصلي ركعتين .. ) ([132]) اهـ.
ويقول رحمه الله: ( .. وهذا مما يعرفه الناس بعاداتهم، ليس له حد في الشرع ولا اللغة، بل ما سموه سفراً؛ فهو سفر) اهـ ([133]).
وقال عن حد الإقامة: ( .. وإذا كان التحديد لا أصل له فمادام المسافر مسافراً فإنه يقصر الصلاة، ولو أقام في مكان شهوراً) ([134]).
يقال هنا: والناس لا يسمون المقيم إقامة عرفية مسافراً لا حقيقة ولا حكماً؛ فهو عند ابن تيمية غير مسافر؛ فلا رخصة له.
فهذا الوجه لازم لكل من قال بأن تحديد السفر راجع إلى العرف ثم اعتبر للإقامة حدوداً أخرى لم يأت بها نص، ولم يدل عليها عرف؛ وذلك لأن المسافر ـــ عند الناس ـــ يخرج من سفره بإقامة عرفية، وكذلك المقيم عرفاً يخرج من إقامته بسفر عرفي.
الوجه الثالث: أن كلام العلماء عند الإطلاق يُحمل على العرف.
رأيتَ في كلام الإمام ابن تيمية أنه يعتبر لانقطاع الرخصة زوال وصف السفر، وأن الرسول e وأصحابه كانوا يترخصون لأنهم لم يقيموا إقامة خرجوا بها عن السفر.
فمتى يزول السفر عند ابن تيمية، وما هي الإقامة التي يعتبرها مخرجة للمسافر عن سفره؟
إن أقرب ما يُحمل عليه كلام العلماء عند الإطلاق هو إرادة الوضع العرفي؛ لأنه الأقرب إلى مراد المتكلم، والمتبادر إلى فهم السامع؛ فالنتيجة هنا أن من أقام إقامة عرفية فقد انقطع سفره؛ وبذلك ينتهي ترخُصُه.
وهذا هو منهج ابن تيمية نفسه؛ فقد حَمَلَ كلام العلماء عند الإطلاق على المعنى العرفي؛ فقال عن سب الرسول e : ( فما كان في العرف سباً للنبي فهو الذي يجب أن يُنزَّل عليه كلام الصحابة والعلماء) ([135]) اهـ.
¥