4. أن الظاهر من مراده بقطع السفر، والعزم على الإقامة هو العرف حملاً لكلام العلماء عليه عند الإطلاق؛ كما تقدم في كلام ابن تيمية رحمه الله، وإذا نظرت في موضع استدلاله وهو نزول النبي e في غزوة تبوك وجدت أن الرسول e وأصحابه لم يتخذوا من أسباب الإقامة ما يُعتبرون به قاطعين لسفرهم، حيث لا مكان معتبر، ولا نية مستقرة لإقامة مدة طويلة.
فما ذكره من الدليل هو أقرب ما يُفسر به كلامه.
كلام عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب:
ولم أَرَ في كلامه أنه ذكر هذا الضابط، بل ظهر منه ما يلي:
1. أنه ذكر أن المعتبر في ثبوت وصف الإقامة هو العُرف ([140]).
2. أنه جعل نهاية الرخصة واحداً من أمرين؛ فقرر: ( .. أن المسافر يجوز له القصر والفطر، ما لم يجمع على إقامة أو يستوطن؛ فحينئذ يزول عنه حكم السفر .. ) ([141])، ويقال في كلامه هذا ما قيل عن كلام ابن تيمية وابن القيم في المقصود من الإجماع على الإقامة.
3. أنه يرى أن من قصد مدة وغرضاً فهو مقيم؛ فلم يَعتبرْ قيدي الوقت والعمل ([142]).
كلام ابن سعدي:
قال العلامة عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: (والصحيح أيضاً أن المسافر إذا أقام بموضع، لا ينوي فيه قطع السفر؛ فإنه مسافر، وعلى سفر، وإن كان ينوي إقامة أكثر من أربعة أيام؛ لكونه داخلاً في عموم المسافرين، ولأن إقامة أربعة أيام أو أقل أو أكثر حكمها واحد؛ فلم يرد المنع من الترخص في شيء منها) ([143]).
ويقال هنا أيضاً: إن المغتربين قد قطعوا سفرهم، وأن كلام العلماء وغيرهم يُحمل عند الإطلاق على المعنى العرفي.
كلام رشيد رضا:
قال الأستاذ العلامة رشيد رضا في فتواه: ( .. المسافر الذي يمكث في بلد أربعة أيام، أو أكثر ـــ وهو ينوي أن يسافر بعد ذلك منها ـــ لا يُعتبر مقيماً منتفياً عنه وصف السفر لا لغة ولا عرفاً، وإنما يُعدُّ مقيماً من نوى قطع السفر واتخاذ سكن له في ذلك البلد، وإن لم يتم له فيه إلا يوم أو بعض يوم. إننا نرى المسافر يخرج من بلده وقد قدَّر لسفره تقديراً منه أن يقيم في بلد كذا ثلاثة أيام، وفي بلد كذا عشرة أيام، وفي بلد كذا عشرين يوماً .. الخ، وهو إذا سئل في أي بلد، أو سئل عنه: هل هو من المسافرين السائحين؟ أم من المقيمين الوطنيين أو المستوطنين؟ لم يكن الجواب إلا أنه من المسافرين السائحين؛ فالمكث المؤقت لا يسمى إقامة إلا بقيد التوقيت، بحيث لو سئل هل أنت مقيم في هذا البلد؟
يقول: لا، وإنما أنا مسافر بعد كذا يوماً) ([144]).
فقد ظهر من كلام الأستاذ الشيخ رشيد رضا ما يلي:
1. أنه لم يصرح بقيدي الوقت والعمل؛ فلا تصح نسبة هذا القول إليه.
2. أن المدد التي ذكرها ـــ وهي ثلاثة أيام وعشرة وعشرين ـــ هي من الأحوال التابعة للسفر، ولا تعتبر عرفاً من الإقامة.
3. أن الشيخ رضا ذكر أن السفر ينقطع باتخاذ المنزل، وهذه مسألة عرفية، بل إنه صرح أن العرف له أثر في بقاء وصف السفر؛ كما هو ظاهرٌ من كلامه، واعتباره لنظرة الناس إليه.
فقد ظهر أن قصد الشيخ محمد رشيد رضا هو حالات النزول أثناء السفر في مدد يسيرة، ودون اتخاذ أسباب الإقامة من سكن ونحوه.
خاتمة بأهم نتائج البحث
1. لم يظهر ـــ من خلال استقراء الإمام ابن تيمية وغيره ـــ أن الشريعة دلت على اعتبار المدد التي ذكرها بعض الفقهاء ـــ كالأربعة أيام أو الخمسة عشر يوماً أو العشرين ـــ حداً فاصلاً بين السفر والإقامة.
2. لم يظهر من هدي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والصحابة تصحيح قول من قال بأن من قيَّد نزوله بوقت
أو عمل فهو مسافر؛ فتَثْبُتُ الرخصة ـــ على هذا القول ـــ للطلبة والموظفين والعمال الذين وجدت فيهم هذه الصفة؛ كما لم تظهر صحة قول من حدها بالاستيطان.
3. ظهر أن الراجح في ضبط الإقامة هو العرف؛ فمن وصفه الناس بأنه مسافر أو مقيم فهو كذلك تُبنى على حاله العرفية جميع أحكام السفر أو الإقامة.
4. أن حقيقة الإقامة في العرف هي: وجود أسباب التعلق بمكان النزول؛ فمتى اكتملت هذه الأسباب أو كثرت أو قويت عُدَّ النازل من المقيمين، ومتى عُدمت هذه الأسباب كلها أو قلَّت أو ضعفت فصاحبها مسافرٌ، أو في حكم المسافرين.
¥