فمن هذه الأسباب نية الإقامة المستقرة ومدتها: فالطمأنينة لا تتحقق أصلا إلا بقصد المدة الطويلة بنية مستقرة لا تردد فيها، وحدها هو العرف. ومنها المكان: فالإقامة لا تكون إلا في مكانها المعتاد. ومنها المسكن: فمن نزل بلداً ولم يتخذ فيه سكن مثله لم يره الناس مقيماً. ومنها التأهل: وله أحوال فُصِّلت في هذا البحث.
5. أن الوصفين الرئيسين للسفر هما مجاوزة بنيان البلد وقطع المسافة الطويلة، وكلاهما أمر عرفي؛ فما دام الشاخص على هذه الحال سائراً متنقلاً فهو في أعلى أحوال السفر.
6. أن من أحوال النزول التابعة للسفر هي حال من نزل مكاناً لم ينو فيه المقامَ ولا قطعَ السفر؛ فبقي مضطرباً غير مستقر ينظر إلى مواصلة سيره، أو الرجوع إلى بلده في وقت يسير عادة؛ كعشرين يوماً أو ثلاثين ونحو ذلك، أو في وقت كثير لم تُوجد فيه بقية أسباب الإقامة الأخرى؛ كالمكان والمسكن، أو وُجد مكان المثل وسكنه في هذه المدة الطويلة، ولكنه يتوقع خروجه كل حين في مثل ذلك الوقت القليل، وأمثلة هذه الأحوال في أسفار الناس كثيرة؛ فمنها: حال من نزل بلداً لجهاد أو إدارة تجارة عاجلة أو لأجل علاج أو مرافعة أو سؤال لأهل العلم أو زيارة أو نزهة، أو مراجعةٍ لدائرة، في مدة قصيرة لا يُعتبر معها المسافر مقيماً قاطعاً لسفره؛ كما لا يُعدُّ بلد نزوله هذا من دور إقامته، ولو سُئل الناس عنه لقالوا بأنه غير مقيم فهو مسافر حقيقة، أو هو باقٍ على حكم سفره؛ لعدم تحقق الإقامة بحدودها المعلومة عند الناس؛ إذْ أن حكم السفر العرفي لا ينتهي إلا بإقامة عرفية.
7. أن ما سوى هذه الأحوال هي أحوال إقامة لا سفر؛ كحال المستوطنين في بلدانهم والمغتربين من الموظفين و الطلبة والعمال وأصحاب الدورات المطولة، ونحوهم، حيث ينزلون مكاناً صالحاً للإقامة، في سكن المثل، مع نية مستقرة للمكث مدة طويلة.
8. أن أكثر أحوال الناس العرفية في السفر والإقامة واضحة بينة، وما قد يُشكل من المدد والمسافات أو غيرها من الأسباب فهو قليل، ومع قِلته فإنه لا يُبنى على التحديد الدقيق وإنما يُبنى على التقدير التقريبي، ونظير ذلك مما تُعتبر فيه المدد والمسافات كثير.
9. إذا أشكل على العبد شيء من المسائل العرفية هل يُعتبر بها النازل مقيماً أو مسافراً استصحب في ذلك الحال السابقة للوصف الطارئ؛ فإن كان مقيماً وشك في قيام وصف السفر فهو مقيم، وإن كان مسافراً وشك في قيام وصف الإقامة فهو مسافر.
10.عند تأمل أحاديث النبي e وآثار بعض الصحابة والتابعين المذكورة في هذا البحث وما جاء فيها من الترخص المدد الطويلة لا تجدها معارضة لاعتبار العرف في ضبط الإقامة؛ فليس فيها حال واحدة ثبتت فيها الإقامة بمعناها المعروف عند الناس، ولم تكن أحوالهم إلا كأحوال النزول المذكورة قريباً في الفقرة السادسة.
11.لم يظهر أن ابن تيمية وابن القيم وعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب وابن سعدي ورشيد رضا قد قالوا بتأثير تقييد النزول بوقت أو عمل في ثبوت الرخصة.
12.ظهر من خلال هذا البحث أن ابن تيمية وعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ورشيد رضا يعتبرون العرف في تحديد الإقامة.
13. ظهر من كلامَي ابن القيم وابن سعدي ما يدل على عدم مشروعية ترخص المغتربين وأمثالهم ممن عزموا على الإقامة مدة طويلة بنية مستقرة.
ـ[العدناني]ــــــــ[09 - 02 - 07, 03:05 م]ـ
الحاشية
([1]) الاستيطان هو نية الإقامة على التأبيد، انظر "حاشية الشرح الكبير" للدسوقي (1/ 373).
([2]) انظر "المغني" لابن قدامة (3/ 153).
([3]) انظر "الكافي" لابن عبد البر (1/ 245).
([4]) انظر "المجموع" للنووي (4/ 364).
([5]) انظر "المغني" لابن قدامة (3/ 147، 148)، و"الإنصاف"للمرداوي (2/ 329).
([6]) رواه مسلم في "صحيحه" (2/ 985).
([7]) انظر "روض الطالب" لأبي يحيى الأنصاري (1/ 236 متن "أسنى المطالب" للسيوطي).
([8]) لحديث ابن عباس في "صحيح البخاري" (3/ 422 فتح)، وحديث أنس فيه أيضا (3/ 507).
([9]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/ 138).
([10]) انظر "زاد المعاد" لابن القيم (3/ 564).
([11]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/ 138).
([12]) المرجع السابق (24/ 136، 137).
([13]) "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/ 140).
¥