هذا كلام الإمام الشافعيّ، وما ذكره من أنّ الصحابة كانوا يصلّون فرادى إذا فاتتهم صلاة الجماعة ذكره معلّقًا بصيغة الجزم لهذا المعلَّق، ووصله الحافظ أبو بكر بن أبي شيبة في كتابه المشهور "المصنّف" رواه بإسنادٍ قويٍّ عن الحسن البصريّ أنّ الصحابة كانوا إذا فاتتهم الصلاة مع الجماعة صلّوا فرادى.
وذكر هذا المعنى ابن القاسم في "مدوّنة الإمام مالك" عن جماعة من السلف، كنافع مولى ابن عمر، وسالم بن عبد الله، وغيرهما؛ أنّهم كانوا إذا فاتتهم الصلاة صلّوا فرادى ولم يعيدوها جماعة مرّة أخرى.
وأيضًا روى الإمام الطبرانيّ في "معجمه الكبير" بإسنادٍ جيّدٍ عن ابن مسعود أنّه خرج مع صاحبين له من بيته إلى المسجد لصلاة الجماعة، وإذا به يرى الناس يخرجون من المسجد وقد انتهوا منها، فعاد وصلّى بهما إمامًا في بيته؛ فرجوع ابن مسعود –وهو مَن هو في صحبته للرسول صلّى الله عليه وسلّم، وفي معرفته وفقهه للإسلام- لو كان يعلم مشروعيّة تعدّد الجماعات في المسجد الواحد لدخل بصاحبيه وصلّى بهما جماعة؛ لأنّه يعلم قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم "أفضل صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة".
". فما الّذي منع ابن مسعود أن يصلّي هذه المكتوبة في المسجد؟ عِلْمُهُ أنّه إن صلّاها في المسجد فسيصلّيها وحده، فرأى أن يجمع بهما في بيته أفضل من أن يصلّي هو ومن معه، كلٌّ على انفرادٍ في المسجد.
فهذه المجموعة من النُقول تؤيّد وجهة نظر الجمهور الّذين كرهوا تعدّد الجماعة في المسجد الموصوف بالصيغة السابقة.
ثمّ لا يعدم الإنسان أن يجد أدلّةً أخرى مع شيء من الاستنباط والنظر الدقيق فيها، فقد روى الإمامان البخاريُّ ومسلمٌ من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لقد هممت أن آمر رجلًا فيصلّي بالناس، ثمّ أمر رجالًا فيحتطبون حطبًا، ثمّ أخالف إلى أناس يَدَعون الصلاة مع الجماعة فأحرّق عليهم بيوتهم، والّذي نفس محمّد بيده، لو يعلم أحدهم أنّه يجد في المسجد مرماتين حسنتين لشهدهما"؛ ففي هذا الحديث تهديد الرسول صلّى الله عليه وسلّم المتخلّفين عن حضور صلاة الجماعة في المسجد بالتحريق بالنار، فأنا أرى أنّ هذا الحديث وحده يشعرنا بالحكم السابق، أو يشعرنا بما ذكر الإمام الشافعيّ ووصله ابن أبي شيبة؛ وهو أنّ الصحابة لم يكونوا يكرّرون الصلاة جماعةً في المسجد، ثمّ جاء هذا الوعيد الشديد من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للمتخلّفين عن صلاة الجماعة، فأيّ جماعة هذه الّتي هم يتخلّفون عنها، ويترتّب على تخلّفهم عنها هذا الوعيد الشديد؟
فإن قيل: هي الجماعة الأولى.
قيل: إذن هذه الجماعة الأخرى غير مشروعة.
وإن قيل: إنّ هذا الوعيد إنّما يشمل المتخلّف عن كلّ جماعة مهما كان رقمها التسلسليّ، حينئذٍ لم تقم الحجّة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مطلقًا عن أيّ متخلّفٍ عن أيّ جماعةٍ؛ لأنّه لو فاجأ بعض المتخلّفين حينما أناب عنه، فجاء إلى بيوتهم فوجدهم يلهون مع نسائهم وأولادهم فأنكر عليهم: لماذا لا تذهبون للصلاة مع الجماعة؟. فيقولون: نصلّي مع الجماعة الثانية أو الثالثة، فهل تقوم حجّة للرسول صلّى الله عليه وسلّم عليهم؟ لذلك فإنّ همّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم بإنابة شخصٍ يقوم مقامه وأن يفاجئ المتخلّفين عن صلاة الجماعة فيحرق عليهم بيوتهم؛ لأكبر دليل على أنّه لم يكن هناك جماعة ثانيةٌ إطلاقًا. هذا بالنسبة إلى النقول الّتي اعتمد عليها العلماء.
أمّا النظر؛ فهو على الوجه الآتي: صلاة الجماعة قد جاء في فضلها أحاديث كثيرة منها الحديث المشهور: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بخمس وعشرين –وفي رواية: بسبع وعشرين- درجة"، فهذه الفضيلة إنّما جاءت لصلاة الجماعة.
وجاء في بعض الأحاديث " أنّ صلاة الرجل مع الرجل أزكى عند الله من صلاته وحده وصلاة الرجل مع الرجلين أزكى عند الله من صلاته مع الرجل"، وهكذا كلّما كثرت الجماعة وأفرادها تضاعف أجرها عند ربّها.
¥