تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فإذا تذكّرنا هذا المعنى ثمّ نظرنا عاقبة القول بجواز تكرار الجماعة في المسجد الّذي له إمام راتب، فإنّ هذه العاقبة أسوأ عاقبة بالنسبة لمثل هذا الحكم الإسلاميّ ألا وهو صلاة الجماعة؛ ذلك لأنّ القول بتكرار الجماعة سيؤدّي إلى تقليل عدد الجماعة الأولى، وهذا ينقض الحثّ الّذي يفيده حديث: "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ... "؛ لأنّ هذا الحديث يحضّ على تكثير الجماعة، والقول بتكرار الجماعة في المسجد يؤدّي –بالضرورة- إلى تقليل عدد أفراد الجماعة الشرعيّة الأولى، وتفريق وحدة المسلمين.

وشيء آخر يقتضيه النظر السليم وهو أن نتذكّر أنّ حديث ابن مسعود في صحيح مسلم نحو حديث أبي هريرة: "لقد هممت أن آمر رجلًا فيصلّى بالناس .... إلى آخره"، جاء هذا الحديث في حقّ المتخلّفين عن صلاة الجمعة، فإذا علمنا أنّ ابن مسعود صبّ وعيدًا من نوع واحد على كلّ من يتخلّف عن صلاة الجمعة، وعن صلاة الجماعة، حينئذ نعرف أنّ هاتين الصلاتين من حيث التصاقهما بصلاة الجماعة فإنّ هذا الوعيد يعني أن لا جماعة ثانية بعد كلّ من الصلاتين؛ فصلاة الجمعة –حتّى الآن- حافظ على وحدتها وعلى عدم القول بمشروعيّة تعدّدها في المسجد الواحد جميعُ العلماء على اختلاف مذاهبهم، لذلك تجد المساجد غاصّة بالمصلّين يوم الجمعة، وإن كان لا يفوتنا أن نتذكّر أنّ من أسباب امتلاء المساجد يوم الجمعة هو أنّ هناك من يحضر الجمعة ولا يحضر الصلوات الأخرى، ولكن ممّا لا شكّ فيه أنّ امتلاء المساجد يوم الجمعة بالمصلّين سببه أنّ المسلمين لم يتعوّدوا –والحمد لله- أن يكرّروا صلاة الجمعة في المسجد الواحد، فلو أنّ المسلمين عاملوا صلاة الجماعة كما عاملوا صلاة الجمعة وكما كان الأمر عليه في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم لكادت المساجد أن تمتلئ بالمصلّين؛ لأنّ كلّ حريص على الجماعة سيكون قائمًا في ذهنه أنّه إن فاتته الصلاة الأولى، فلا يمكن له أن يتداركها فيما بعد، فيكون هذا الاعتقاد حافزًا له على الحرص الشديد على صلاة الجماعة، والعكس بالعكس تمامًا، إذا قام في نفس المسلم أنّه إن فاتته هذه الجماعة الأولى فيوجد جماعة ثانية وثالثة ... وعاشرة أحيانًا، فهذا ممّا سيضعف همّته وحرصه على الحضور للجماعة الأولى.

بقي لدينا أمران اثنان:

الأوّل: أن نبيّن أنّ الّذين ذهبوا إلى عدم مشروعيّة الجماعة الثانية على التفصيل السابق، وكراهة فعلها، هم جمهور الأئمّة من السلف، وفيهم الأئمّة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعيّ، والإمام أحمد معهم في رواية، لكن هذه الرواية غير مشهورة عند أتباعه اليوم، وإن كان ذكرها أخصّ تلامذته وهو أبو داود السجستانيّ؛ فقد روى عنه في كتاب "مسائل الإمام أحمد" أنّه قال: "إنّ تكرار الجماعة في المسجدين الحرمين أشدّ كراهة"، فهذا –من باب التفضيل- يشعرنا بأنّ الكراهة في المساجد الأخرى موجودة بتكرار الجماعة، ولكنّها أشدّ في المسجدين، وهو في هذه الرواية يلتقي مع الأئمّة الثلاثة.

الثاني: أنّ الرواية الأخرى عن الإمام أحمد والمشهورة عن أتباعه فعمدته فيها هو ومن تابعه من المفسّرين: حديثٌ يرويه الترمذيّ والإمام أحمد وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدريّ أنّ رجلًا دخل المسجد والرسول صلّى الله عليه وسلّم قد صلّى وحوله أصحابه، فأراد هذا الرجل أن يصلّي، فقال عليه الصلاة والسلام: "ألا رجل يتصدّق على هذا فيصلّي معه"، وفي رواية لأبي بكر البيهقيّ في "سننه الكبرى": أنّ هذا الرجل هو أبو بكر الصدّيق، لكنّ هذه الرواية في إسنادها ضعف، والرواية الصحيحة لم يُسَمَّ فيها الرجل، فقد احتجّوا بهذا الحديث وقالوا: إنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم أقرّ الجماعة الثانية!

والجواب على هذا الاستدلال هو أن نلاحظ أنّ الجماعة الّتي تضمّنها الحديث هي غير الجماعة الّتي يجري حولها السؤال، فإنّ الجماعة الّتي تضمّنها الحديث هي جماعة إنسان دخل المسجد بعد الجماعة الأولى، ويريد أن يصلّي وحده، فحضّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم أصحابه الّذين كانوا قد صلّوا معه أن يقوم أحدهم فيتطوّع ويصلّي نافلة، ففعل، وكذلك وقع؛ فهذه الجماعة مؤلّفة من شخصين: إمام ومأموم، الإمام مفترض والمأموم متنفّل، فمن هو الّذي عقد هذه الجماعة؟ لولا المتنفّل ما كان هناك جماعة، إذن هذه جماعة تطوّع وتنفّل، وليست جماعة فريضة،

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير