2 - و استدلوا أيضا بما أخرجه أحمد من فعل ابن عمر - رضي الله عنهما - من أنه كان إذا كان الثلاثين من شعبان و حال دونه غيم أو قتر أصبح صائما)، وقال الشيخ الألباني في الإرواء: (وإسناده صحيح).، وجاء فعل ابن عمر هذا في روايته لحديث أبي داود مرفوعا: [الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين. قال فكان ابن عمر إذا كان شعبان تسعا وعشرين نظر له، فإن رؤى فذاك وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قترة أصبح مفطرا، فإن حال دون منظره سحاب أو قترة أصبح صائما]، قالوا: فابن عمر – رضي الله عنه – هو أحد رواة الحديث، وهو أدرى بمرويه.
والجواب على دليلهم هذا: هو ما قاله ابن القيم - رحمه الله تعالى - في الزاد (2/ 47):
[فدل على ابن عمر لم يفهم من الحديث وجوب إكمال الثلاثين بل جوازه ... ويدل على ذلك – أي عدم الوجوب – لكان يأمر بذلك أهله وغيرهم، ولم يكن يقتصر على صومه في خاصة نفسه , وبين أن ذلك هو الواجب على الناس، وعبد الله بن عمر – رضي الله عنها - كان يأخذ من التشديدات بأشياء لا يوافقه عليها الصحابة، فكان يغسل داخل عينيه في الوضوء حتى عمى , وكان إذا مسح رأسه أفرد أذنيه بماء جديد , وكان يمنع من دخول الحمام , وكان يتيمم بضربتين]. انتهى كلامه.
وأما قولهم: بأن ابن عمر هو راوي الحديث، وهو أدرى بمرويه،
قال أهل القول الأول: هذا صحيح، ولكن بشرطين اثنين: الأول: أن يصرح بأن هذا تفسير ما روى؛ والثاني: ألا يخالف تفسيره مرويَّه، ألا يخالف ظاهر الرواية التي يرويها، وهو هنا لم يصرح بأنه تفسير مرويه، وفعله هنا قد خالف مرويه، فالشرطان مفقودان،ففعله من باب الرأي والاجتهاد في الرواية التي خالف فيها النص، وتكون روايته مقدمة على رأيه لمخالفته ظاهر النص، فكيف إذا جاءت روايات أخرى تخطّئ فعله، فالعبرة هنا بما روى لا بما رأى، فإن الأحاديث صريحة بأنه لا يصام، ويُحتمل بأنه – رضي الله عنه – قد صامه هنا من باب الاحتياط، لكن الأحاديث صريحة في النهي عن صومه.
قال الشيخ العلامة ابن باز: [وأما ما يروى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يصوم يوم الثلاثين إذا كان غيماً، فهذا اجتهاد منه رضي الله عنه، والصواب خلافه وأن الواجب الإفطار، وابن عمر اجتهد في هذا المقام ولكن اجتهاده مخالف للسنة عفا الله عنه، والصواب أن المسلمين عليهم أن يفطروا يوم الثلاثين إذا لم ير الهلال ولو كان غيماً فإنه يجب الإفطار، ولا يجوز الصوم حتى يثبت الهلال أو يكمل الناس العدة، عدة شعبان ثلاثين يوماً، هذا هو الواجب على المسلمين. ولا يجوز أن يخالف النص لقول أحد من الناس لا قول ابن عمر ولا غيره؛ لأن النص مقدم على الجميع؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، ( http://www.binbaz.org.sa/index.php?pg=mat&type=fatawa&id=624#_ftn3_ftn3) ولقوله جل وعلا: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.]. انتهى من " نور على الدرب " وضمن مجموعة فتاويه ومقالاته – رحمه الله تعالى -.
3 - واستدلوا أيضا إنه يحتمل أن يكون الهلال قد ظهر حقيقة , ولكن منعه هذا الشيء الحاجب , فيُصام احتياطا.
و يجاب عنه بأن يقال:
أولا: إنما يكون الاحتياط فيما كان الأصل فيه الوجوب , وأما إن كان الأصل عدمه , فلا احتياط في إيجابه، وأنت حينئذٍ تؤثم الناس دون دليل بين ولا برهان واضح.
ثانيا: ما كان سبيله الاحتياط , فقد ذكر الإمام أحمد، وغيره أنه ليس بلازم , وإنما هو على سبيل الورع و الاستحباب، وذلك لأننا إذا احتطنا وأوجبنا، فإننا وقعنا في غير الاحتياط من حيث تأثيم الناس بالترك , والاحتياط هو ألا تأثم الناس.
القول الثالث:
أن صومه مستحب , وليس بواجب.
وهو رواية عن أحمد – رحمه الله تعالى -.
واستدلوا بفعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
ويَرِدُ عليهم النصوص التي استدل بها أصحاب القول الأول، وسبق الرد على من احتج بفعل ابن عمر – رضي الله عنهما -.
"القول الرابع":
أن صومه مكروه وليس بحرام.
وهو قول لبعض المالكية.
ويرد عليهم النصوص السابقة، فإن ظواهرها التحريم، فهي أقوى من القول بالكراهة فقط.
"القول الخامس":
أن صومه مباح وليس بواجب , ولا مكروه ولا مستحب.
وهو مذهب ابن سريج والقفال وأبي الطيب، وقال شيخ الإسلام: " وهذا مذهب أبي حنيفة وغيره، وهو مذهب أحمد المنصوص الصريح عنه ". (المجموع).، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن القيم ولعل شيخه كذلك.
ولا شك أن ما استدل به الفريق الأول من النصوص قوية الدلالة في التحريم.
"القول السادس":
العمل بعادة غالبه، فإذا مضى شهران كاملان فالثالث ناقص، وإذا مضى شهران ناقصان فالثالث كامل , فإذا كان شهرا رجب وشعبان ناقصين فرمضان كامل , وإذا كان رجب وجمادى الثاني ناقصين فشعبان كامل.
وسبق أن النصوص ظاهرة في المنع من صيامه، وهي عامة ليس فيها مثل هذا التفصيل.
"القول السابع":
أن الناس تبع للإمام , فإن صام الإمام صاموا , وإن أفطر أفطروا.
وهذا هو مذهب الحسن البصري، وابن سيرين، ورواية عن أحمد.
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس].
أخرجه الترمذي عن عائشة المؤمنين.
وأخرج ابن ماجة عن أبي هريرة مرفوعا: [الفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون].
وكلاهما صحيح، انظر "صحيح الجامع" و "الإرواء"للمحدث الألباني.
قال الشيخ العلامة ابن عثيمين في الشرح الممتع - ج6/ 218:
[وأصح هذه الأقوال هو التحريم , ولكن إذا ثبت عند الإمام وجوب صوم هذا اليوم، وأمر الناس بصومه فأنه لا يُنابذ , ويحصل عدم المنابذة بألا يظهر بالإنسان فطره و إنما يفطره سرا].
والراجح – والله أعلم – هو مذهب أصحاب القول الأول – وهو القول بتحريم صوم يوم الشك – وذلك لقوة الأدلة التي احتجوا بها، مع الأخذ بعين الاعتبار المذهب السابع درءً للمفاسد، كما أشار الشيخ العلامة ابن عثيمين.
والله الموفق.
يتبع ....
¥