قَالَ الْقَرَافِيّ: الْمَصَائِب كَفَّارَات جَزْمًا سَوَاء اِقْتَرَنَ بِهَا الرِّضَا أَمْ لَا، لَكِنْ إِنْ اِقْتَرَنَ بِهَا الرِّضَا عَظُمَ التَّكْفِير وَإِلَّا قَلَّ، كَذَا قَالَ، وَالتَّحْقِيق أَنَّ الْمُصِيبَة كَفَّارَة لِذَنْبٍ يُوَازِيهَا، وَبِالرِّضَا يُؤْجَر عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُصَابِ ذَنْب عُوِّضَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ الثَّوَاب بِمَا يُوَازِيه.
قال ابن حجر ثُمَّ الْمُرَاد بِتَكْفِيرِ الذَّنْب سَتْره أَوْ مَحْو أَثَره الْمُرَتَّب عَلَيْهِ مِنْ اِسْتِحْقَاق الْعُقُوبَة. وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مُجَرَّد حُصُول الْمَرَض أَوْ غَيْره مِمَّا ذُكِرَ يَتَرَتَّب عَلَيْهِ التَّكْفِير الْمَذْكُور سَوَاء اِنْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ صَبْر الْمُصَاب أَمْ لَا،
وَأَبَى ذَلِكَ قَوْم كَالْقُرْطُبِيِّ فِي " الْمُفْهِم " فَقَالَ: مَحَلّ ذَلِكَ إِذَا صَبَرَ الْمُصَاب وَاحْتَسَبَ وَقَالَ مَا أَمَرَ اللَّه بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) الْآيَة، فَحِينَئِذٍ يَصِل إِلَى مَا وَعَدَ اللَّه وَرَسُوله بِهِ مِنْ ذَلِكَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَلَى دَعْوَاهُ بِدَلِيلٍ.
ودلل ابن حجر على وقوع التكفير بمجرد وقوع المصيبة فقال
رَوَى أَحْمَد وَالْبُخَارِيّ فِي " الْأَدَب الْمُفْرَد " وَأَصْله فِي النَّسَائِيِّ بِسَنَدٍ جَيِّد وَصَحَّحَهُ الْحَاكِم مِنْ طَرِيق عِيَاض بْن غُطَيْف قَالَ: " دَخَلْنَا عَلَى أَبِي عُبَيْدَة نَعُودهُ مِنْ شَكْوَى أَصَابَتْهُ فَقُلْنَا: كَيْف بَاتَ أَبُو عُبَيْدَة؟ فَقَالَتْ اِمْرَأَته تُحَيْفَة: لَقَدْ بَاتَ بِأَجْرٍ. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مَا بِتُّ بِأَجْرٍ، سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ اِبْتَلَاهُ اللَّه بِبَلَاءٍ فِي جَسَده فَهُوَ لَهُ حِطَّة "،،،
وَلَمَّا كَانَ الْأَغْلَب مِنْ بَنِي آدَم وُجُود الْخَطَايَا فِيهِمْ أَطْلَقَ مَنْ أَطْلَقَ أَنَّ الْمَرَض كَفَّارَة فَقَطْ، وَعَلَى ذَلِكَ تُحْمَل الْأَحَادِيث الْمُطْلَقَة، وَمَنْ أَثْبَتَ الْأَجْر بِهِ فَهُوَ مَحْمُول عَلَى تَحْصِيل ثَوَاب يُعَادِل الْخَطِيئَة، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ خَطِيئَة تَوَفَّرَ لِصَاحِبِ الْمَرَض الثَّوَاب، وَاَللَّه أَعْلَم بِالصَّوَابِ.
وَقَدْ اِسْتَبْعَدَ اِبْن عَبْد السَّلَام فِي " الْقَوَاعِد " حُصُول الْأَجْر عَلَى نَفْس الْمُصِيبَة، وَحَصَرَ حُصُول الْأَجْر بِسَبَبِهَا فِي الصَّبْر، وَتُعُقِّبَ بِمَا رَوَاهُ أَحْمَد بِسَنَدٍ جَيِّد عَنْ جَابِر قَالَ: " اِسْتَأْذَنَتْ الْحُمَّى عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِهَا إِلَى أَهْل قُبَاء، فَشَكَوْا إِلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ: مَا شِئْتُمْ، إِنْ شِئْتُمْ دَعَوْت اللَّه لَكُمْ فَكَشَفَهَا عَنْكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَكُون لَكُمْ طَهُورًا. قَالُوا: فَدَعْهَا "،
وَوَجْه الدَّلَالَة مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُؤَاخِذهُمْ بِشَكْوَاهُمْ، وَوَعَدَهُمْ بِأَنَّهَا طَهُور لَهُمْ،
قال ابن حجر: وَاَلَّذِي يَظْهَر أَنَّ الْمُصِيبَة إِذَا قَارَنَهَا الصَّبْر حَصَلَ التَّكْفِير وَرَفْع الدَّرَجَات عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَفْصِيله، وَإِنْ لَمْ يَحْصُل الصَّبْر نُظِرَ إِنْ لَمْ يَحْصُل مِنْ الْجَزَع مَا يُذَمّ مِنْ قَوْل أَوْ فِعْل فَالْفَضْل وَاسِع، وَلَكِنْ الْمَنْزِلَة مُنْحَطَّة عَنْ مَنْزِلَة الصَّابِر السَّابِقَة، وَإِنْ حَصَلَ فَيَكُون ذَلِكَ سَبَبًا لِنَقْصِ الْأَجْر الْمَوْعُود بِهِ أَوْ التَّكْفِير، فَقَدْ يَسْتَوِيَانِ، وَقَدْ يَزِيد أَحَدهمَا عَلَى الْآخَر، فَبِقَدْرِ ذَلِكَ يُقْضَى لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَر
ـ[أبو تامر المصري]ــــــــ[23 - 10 - 07, 10:35 م]ـ
قال أبو الحسن ابن بطال في شرح صحيح البخاري -كتاب المرضى:
قال كثير من أهل التأويل فى قوله تعالى: (من يعمل سوءًا يجز به) الآية - سورة النساء.
معناه أن المسلم يجزى بمصائب الدنيا فتكون له كفارة،
روى هذا أبى بن كعب وعائشة ومجاهد،
وروى عن الحسن وابن زيد أنه فى الكفار خاصة، وحديث عائشة وأبى سعيد وأبى هريرة يشهد بصحة القول الأول،
وروى عن ابن مسعود أنه قال: الوجع لا يكتب به الأجر ولكن تكفر به الخطيئة.
فإن قيل: إن ظاهرة هذه الآثار يدل على أن المريض إنما يحط عنه بمرضه السيئات فقط دون زيادة،
وقد ذكر البخارى فى كتاب الجهاد فى باب يكتب للمسافر ماكان يعمل فى الإقامة فى حديث أبى موسى عن النبى عليه السلام أنه قال: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا» وظاهره مخالف لآثار هذا الباب لأن فى حديث أبى موسى أنه يزاد على التكفير،
قيل له: ليس ذلك بخلاف وإنما هو زيادة بيان على آثار هذا الباب التى جاءت بتكفير الخطايا بالوجع لكل مؤمن لقوله عليه السلام: «مايصيب المؤمن من وصب ولا نصب فعم جميع المؤمنين».
وفى حديث أبى موسى معنى آخر وهو أنه من كانت له عادة من عمل صالح ومنعه الله منه بالمرض أو السفر وكانت نبيته لو كان صحيحًا أو مقيمًا أن يدوم عليه ولايقطعه، فإن الله تعالى يتفضل عليه بأن يكتب له ثوابه، فأما من لم له تنفل ولاعمل صالح فلا يدخل فى معنى الحديث لأنه لم يكن يعمل فى صحته أو لإقامته مايكتب له فى مرضه وسفره،
فحديث أبى موسى المراد به الخصوص، وأحاديث هذا الباب المراد بها العموم.