تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فهي تطلق على المنفعة ذاتها، كما تطلق على وسائلها المفضية إليها، مما هو داخل ضمن مقاصد الشريعة الإسلامية، ومن تتبع كتب الأصول، أدرك هذا جلياً، حيث يجدهم تارة يطلقون المصلحة على المنفعة، وتارة يطلقونها على أسبابها الموصلة إليها، قال العز بن عبد السلام في كتابه القيم "قواعد الأحكام 1/ 12": "المصالح ضربان: أحدهما حقيقي وهو الأفراح واللذات. والثاني مجازي، وهو أسبابها"، وقريب من هذا قول ابن القيم في "مفتاح دار السعادة 2/ 14": "المصلحة: هي اللذة والنعيم وما يفضي إليه. والمفسدة: هي العذاب والألم وما يفضي إليه".

والمراد بالحفظ في التعريف هو مراعاة هذه المصالح الخمس من جانبي الوجود والعدم، أما من جانب الوجود، فيكون بتشريع ما يوجدها ويقيمها ويكملها ويقويها، وأما من جانب العدم، فيكون بتشريع ما يكفل بقاءها واستمرارها، ويدرأ عنها ما يفوتها أو يخل بها، ويحميها من أي اعتداء واقع أو متوقع عليها.

وإذا علمنا هذه الحقيقة الجليلة، وأن الشريعة كلها مبناها على تحقيق المصالح ودرء المفاسد، في كل أحكامها وتشريعاتها، وأوامرها ومنهياتها، فليس معنى ذلك أن المصلحة المعتبرة التي يبنى عليها الأمر والنهي، والتحليل والتحريم هي ما نراه بمفهومنا القاصرة، وعقولنا المحدودة المشوبة بشوائب الهوى والشهوة، والمتأثرة بمؤثرات الواقع المعاش والبيئة المحيطة، فكثير من الناس ـ وبخاصة في زماننا اليوم مع الانفتاح الإعلامي الكبير وتنوع وسائل الاتصال والتواصل ـ أخذ يتجرأ على جناب الشريعة، ويتصدى للتحليل والتحريم، محتجاً بهذه الحقيقة وهي أن الشريعة إنما جاءت لتحقيق مصالح الخلق، فيقرر الأحكام بناء على ما يراه بعقله القاصر، وتهواه نفسه الأمارة بالسوء، ويزعم أن هذا هو ما تقتضيه المصلحة، وأنه هو حكم الله، دون أن ينظر في الأدلة الشرعية، ويتعرف من خلالها وكلام العلماء المعتبرين حولها على حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيه، وقد يكون في واقع الأمر محرماً منهياً عنه، وهو عين المفسدة، أو فيه مفاسد كثيرة تربي على ما فيه من مصالح أو منافع.

وأخطر من هذا أن فئاماً من المتعالمين في زماننا اليوم، ممن جمعوا بين قلة الفقه ورقة الدين، واتباع الهوى، والإعجاب بالنفس، أخذوا يخوضون في أحكام الشريعة، ويفتون في كبار المسائل بلا حجة ولا دليل، ولا بينة ولا برهان، وإنما دليلهم هو المصالح المرسلة، التي تقررها عقولهم القاصرة، وتدعو لها أهوائهم الضالة وإراداتهم الفاسدة، فأباحوا كثيراً من المحرمات، وأنكروا كثيراً من المشروعات، لأنها بزعمهم خلاف المصلحة التي هي مقصود الشارع، بل وصل الحال ببعضهم إلى أن يتبنى ـ عن حسن نية أو سوء نية ـ أحد هذين المنهجين الخطيرين، وكلاهما كفيل بهدم الدين والتشكيك في أحكامه القطعية، وثوابته الشرعية، وهما:

المنهج الأول: الزعم بأن علماء الشريعة معنيون بأحكام العبادات والأحوال الشخصية ونحوها، ولا شأن لهم بقضايا السياسة والاقتصاد والقضايا الاجتماعية والمسائل الطبية والهندسية وعلوم الفضاء وعلوم الأرض وعلوم البحار، والعلوم المدنية والعسكرية، فلا ناقة لهم فيها ولا جمل، وليس لنا أن نستفتيهم عن الحلال والحرام فيها، لأنهم ليسوا من أهلها، والمختصون فيها أعلم بوجوه المصالح والمفاسد فيها من علماء الشريعة البعيدين عنها ...

وفي هذا الكلام خلط عجيب، وتلبيس شديد، وجهل فاضح، لأن معرفة هؤلاء المختصين بالطب أو الهندسة أو الصناعة أو السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو نحوها لا يعني أنهم يعرفون أحكامها وضوابطها الشرعية، وما يحل فعله منها وما يحرم، وإن كانوا هم المرجع المعتمد في تكييف هذه المسائل وتصويرها وشرح حقائقها وبيان ملابساتها لعلماء الشريعة، لكن معرفة هؤلاء المتخصصين بهذه العلوم وممارستهم لها لا تعني معرفتهم بحكم الشارع فيها، فالأحكام الشرعية وقضايا الحلال والحرام في جميع مجالات الحياة وشتى مرافقها مرجعها إلى علماء الشريعة والمتخصصين فيها.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير