تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولست أنسى في هذا المقام موقفاً حصل معي في محاضرة مشهودة دعيت لإلقائها في المؤتمر السنوي لرابطة الشباب العربي المسلم في أمريكا، والذي يحضره ما يزيد على عشرة آلاف مسلم سنوياً، وكان موضوع المحاضرة حسبما طلب مني "الجمود والتجديد في الفقه الإسلامي"، وحين أردت البدء في المحاضرة أبدوا رغبتهم بأن يشاركني في الموضوع أحد المتخصصين في الهندسة المعمارية، ولكنه ـ كما ذكروا ـ مهتم بهذه القضية، حيث ألف كتاباً كاملاً عن "بناء الأحكام على المصالح في الشريعة الإسلامية"، فرحبت به وتوقعت أنه سيثري هذا الموضوع المهم، ويحصل التكامل بين ما عنده وعندي، وحين جاء دوره في الكلام سمعت منه أمراً عجباً، وهو يؤكد ما يقوله العلماء منذ القدم: من خاض في غير فنه أتى بالعجائب، ويدل كذلك على جراءة بعض المتحذلقين والكتبة على الخوض في بعض المسائل الكبرى في الشريعة وهم من أجهل الناس فيها، فيظلمون أنفسهم ودينهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً!!

وكان مما قال: أنا مهندس معماري أعلم من جميع علماء الشريعة بالهندسة المعمارية وقواعدها ومدارسها وآلياتها ووسائل تنفيذها، وإذا أراد أحد من هؤلاء العلماء أن يبني مسجداً أو بيتاً فنحن أهل الاختصاص في هذا المجال، ونحن الذين نرسم التصميم المناسب لهذه المباني وأمثالها ـ وإلى هنا فكلامه لا اعتراض عليه ـ ولكنه أردف قائلاً: وما دمنا نحن المختصين بالهندسة المعمارية فنحن أعلم بالمصالح والمفاسد في هذا المجال، ولا حاجة بنا لسؤال العلماء عن ما يحل ويحرم من أعمالنا وتصميماتنا، لأننا أعلم منهم بها!!

ثم أردف قائلاً: وكذلك الحال بالنسبة للأطباء الذين هم أعلم بالطب ووسائله من علماء الشريعة البعيدين عن هذا المجال، وتجد الواحد منهم لا يحسن خياطة جرح أو إجراء عملية جراحية صغيرة، أو صرف دواء لما يعانيه هو أو غيره من الأدواء المعتادة، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا يستفتى هؤلاء العلماء في القضايا الطبية والعمليات الجراحية والأدوية العلاجية؟! بل كل طبيب يقدر المصلحة ويعمل بمقتضاها، لأن الشريعة الإسلامية مبناها على جلب المصالح ودرء المفاسد!!

وبعد أن فرغ شكرته على مشاركته ودعوت له بالمغفرة والتوفيق وقلت له: إن المقدمات التي ذكرتها في حديثك ورتبت عليها النتيجة النهائية صحيحة لا غبار عليها، ولكن النتيجة خاطئة قطعاً، ودليل صحة تلك المقدمات قول الله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} وأهل الذكر هم المتخصصون في كل شأن من شؤون الحياة، فإن كانت القضية طبية رجعنا إلى الأطباء لتشخيصها وتوصيفها ومعرفة الوسيلة المناسبة لمعالجتها وحلها، وإن كانت هندسية فنرجع لأهل الهندسة، وإن كانت فلكية رجعنا لعلماء الفلك، وإن كانت حاسوبية رجعنا للمتخصصين في الحاسوب، وإن كانت اقتصادية رجعنا لأهل الاقتصاد، وإن كانت سياسية رجعنا لأهل السياسة ... وهكذا.

أما كون النتيجة التي قررتها خاطئة فمن ثلاثة وجوه:

الأول: ليس كل ما يسمى مصلحة في اللغة أو العرف، أو يراه الناس أو طوائف منهم مصلحة يمكن أن يكون مصلحة مقصودة للشارع، تشرع لتحصيلها الأحكام، ويؤمر بها المكلفون. وكذلك الحال بالنسبة للمفسدة التي هي ضد المصلحة.

فالمراد بالمصالح والمفاسد: ما كانت كذلك في نظر الشرع، لا ما كان ملائماً أو منافراً للطبع، فما شهد له الشرع بالصلاح فهو المصلحة، وما شهد له بالفساد فهو المفسدة، والخروج عن هذا المعيار معناه اتباع الهوى، والهوى باطل لا يصلح لتمييز الصلاح من الفساد، قال الله تعالى: {) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} ([ص: 26]. فليس ثمّة إلا الحق أو الهوى، والحق هو ما جاء به الشرع الحنيف، وما عداه فهو الهوى.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير