فالمراد بالمصالح والمفاسد: ما كانت كذلك في نظر الشرع، لا ما كان ملائماً أو منافراً للطبع. وهذا هو الذي أكده الغزالي في تعريفه للمصلحة، حيث قال: "أما المصلحة، فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة، أو دفع مضرة، ولسنا نعني به ذلك، فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة: المحافظة على مقصود الشرع".
إذاً فمعيار المصلحة والمفسدة هو الشرع، فما شهد له الشرع بالصلاح فهو المصلحة، وما شهد له بالفساد فهو المفسدة، والخروج عن هذا المعيار معناه اتباع الهوى، والهوى باطل لا يصلح لتمييز الصلاح من الفساد، قال الله - تعالى – {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].
فليس ثمّ إلا الحق أو الهوى، والحق هو ما جاء به الشرع الحنيف، وما عداه فهو الهوى، فالمصلحة الشرعية ليست هي الهوى أو تحقيق الأغراض الشخصية، والطموحات المادية، ذلك أن أهواء الناس متباينة، ورغباتهم مختلفة، وطموحاتهم متفاوتة، والإنسان بدافع من هواه وشهوته يسعى إلى تحصيل كل مستلذ ملائم، ودفع كل شاق منافر، وإن كان في ضمن ذلك ضرر قد يلحق به أو بغيره من الناس، أو به وبهم حالاً أو مآلاً.
يقول الشاطبي في "الموافقات1/ 349": "إن المصالح التي تقوم بها أحوال العبد، لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها وواضعها، وليس للعبد بها علم إلا من بعض الوجوه، والذي يخفى عليه منها أكثر من الذي يبدو له، فقد يكون ساعياً في مصلحة نفسه من وجه لا يوصله إليها، أو يوصله إليها عاجلاً لا آجلاً، أو يوصله إليها ناقصة لا كاملة، أو يكون فيها مفسدة تربي في الموازنة على المصلحة، فلا يقوم خيرها بشرها. وكم من مدبّر أمراً لا يتم له على كماله أصلاً، ولا يجني منه ثمرة أصلاً، وهو معلوم مشاهد بين العقلاء. فلهذا بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
فإذا كان كذلك، فالرجوع إلى الوجه الذي وضعه الشارع، رجوع إلى وجه حصول المصلحة على الكمال، بخلاف الرجوع إلى ما خالفه"
فإن اللذة العارضة قد تعقب آلاماً ومفاسد كبيرة حالاً ومآلاً، وذلك كشرب المسكرات وتعاطي المخدرات، وارتكاب الفواحش والمنكرات.
وإن القعود والراحة قد يعقبان ذلة ومهانة، وخساراً كبيراً وتعباً طويلاً. وذلك كترك الجهاد في سبيل الله، طلباً للراحة، وإخلاداً إلى الأرض.
وإنّ كسب المال مصلحة لكاسبه، ولكن كسبه بالطرق المحرمة، كطريق الربا أو الرشوة أو أكل مال اليتيم أو غيرها من أنواع أكل أموال الناس بالباطل، فيه ظلم للغير وإضرار بهم، مع ما فيه من محق البركة وإتلاف النفس والمال.
وعلى العكس من ذلك، نجد أن بعض وسائل المصالح مؤلمة وشاقة، ولكن عواقبها حميدة، ونتائجها حسنة، وذلك كآلام العلاج والمداواة، وكألم الجهاد في سبيل الله ومقاتلة أعداء الله، قال الله - عز وجل - ? {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ? [البقرة: 216]، وقال - تعالى – {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء: 104].
ومن ذلك العقوبات الشرعية، فإنها مؤلمة لمن أقيمت عليهم، ولكنها تعود بالخير العميم على المعاقب نفسه، وعلى المجتمع بأسره. قال العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام 1/ 12": "وربما كانت أسباب المصالح مفاسد فيؤمر بها أو تباح، لا لكونها مفاسد، بل لكونها مؤدية إلى المصالح، وذلك كقطع الأيدي المتآكلة حفظاً للأرواح، وكالمخاطرة بالأرواح في الجهاد، وكذلك العقوبات الشرعية، كلها ليست مطلوبة لكونها مفاسد، بل لحكمها المقصودة من شرعها، كقطع السارق وقطع قطاع الطريق، وقتل الجناة، ورجم الزناة وجلدهم وتغريبهم، وكذلك التعزيرات، كل هذه مفاسد أوجبها الشرع، لتحصيل ما رتب عليها من المصالح الحقيقية، وتسميتها بالمصالح من مجاز تسمية السبب باسم المسبب".
¥