وما طَرَقت البدعةُ بابَ الدين وَوَلَجت على أصحابها إلا عندما أعرضوا عن نصوص الكتاب والسنة واستحسنوا أشياء لا دليل عليها، وأساؤا فهم النصوص والأخذ بها والتسليم لها ولم يسترشدوا بسلف الأمة وكيف كان منهجهم في ذلك فكان عملهم عين الجرأة على كتاب الله وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
ومن عظيم فقه الإمام الحافظ أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، صاحب السنن أن عقد باباً في سننه (1/ 116) قال فيه: "باب تعجيل عقوبة من بلغه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حديث فلم يعظمه ولم يوقره ".
وأخرج ـ رحمه الله ـ في سننه (1/ 117):
(444) أخبرنا محمد بن حميد، حدثنا هارون هو ابن المغيرة، عن عمرو بن أبي قيس، عن الزبير بن عدي، عن خراش بن جبير قال: رأيت في المسجد فتى يخذف، فقال له شيخ: لا تخذف، فإني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن الخذف. فغفل الفتى، فظن أن الشيخ لا يفطن له، فخذف، فقال له الشيخ: أحدثك أني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينهى عن الخذف، ثم تخذف؟ والله لا أشهد لك جنازة، ولا أعودك في مرض ولا أكلمك أبدا. فقلت لصاحب لي يقال له مهاجر: انطلق إلى خراش فاسأله. فأتاه فسأله عنه، فحدثه.
(445) أخبرنا سليمان بن حرب: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن مغفل ـ رضي الله عنه ـ قال: نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الخذف. وقال: إنها لا تصطاد صيداً، ولا تنكي عدواً، ولكنها تكسر السن وتفقأ العين. فرفع رجل ـ بينه وبين سعيد قرابة ـ شيئاً من الأرض، فقال: هذه، وما تكون هذه؟ فقال سعيد: ألا أراني أحدثك عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم تهاون به؟ لا أكلمك أبدا.
(446): أخبرنا مروانُ بنُ محمدٍ، حدثنا إسماعيلُ بنُ بشرٍ، عن قتادَةَ، قال: حدثَ ابنُ سيرينَ رجلاً بحديثٍ عن النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلّم ـ، فقال رجلٌ: قالَ فلانٌ كذا وكذا، فقال ابنُ سيرينَ: أحدِّثُكَ عن النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلّم ـ وتقولُ قالَ فلانٌ وفلانٌ: كذا وكذا، لا أُكَلِّمُكَ أبداً.
(448) أخبرنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها. فقال فلان بن عبد الله: إذا والله أمنعها. فأقبل عليه ابن عمر فشتمه شتمة لم أره شتمها أحداً قبله قط. ثم قال: أحدثك عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتقول: إذا والله أمنعها؟.
(449) أخبرنا محمد بن حميد: ثنا هارون بن المغيرة، عن معروف، عن أبي المخارق قال: ذكر عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: نهى عن درهمين بدرهم فقال فلان: ما أرى بهذا بأساً يداً بيد. فقال عبادة: أقول قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وتقول: لا أرى به بأسا؟ والله لا يظلني وإياك سقف أبدا).
قال الإمام الذهبي ـ رحمه الله ـ:
العِلمُ قال الله قال رسوله ... إن صَحَّ والإجماعُ فاجهد فيه
وحذارِ مِن نصب الخلاف جهالةً ... بين الرسول وبين رأي فقيهِ
الوافي بالوفيات (525). (ترجمة الإمام الذهبي).
وأختم القول بهذه المناظرة بين الإمام محمد بن إدريس الشافعي، والإمام إسحاق بن راهوية ـ رحمهما الله ـ:
قال الإمام النووي في المجموع (9/ 299):
" رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكُوفِيِّ، قَالَ:
رَأَيْتُ الشَّافِعِيَّ بِمَكَّةَ يُفْتِي النَّاسَ، وَرَأَيْتُ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهْوَيْهِ وَأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ حَاضِرَيْنِ، فَقَالَ أَحْمَدُ لِإِسْحَاقَ: تَعَالَ حَتَّى أُرِيَكَ رَجُلًا لَمْ تَرَ عَيْنَاكَ مِثْلَهُ.
فَقَالَ إِسْحَاقُ: لَمْ تَرَ عَيْنَايَ مِثْلَهُ؟
فَقَالَ: نَعَمْ.
فَجَاءَ بِهِ فَوَقَفَهُ عَلَى الشَّافِعِيِّ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ إلَى أَنْ قَالَ:
ثُمَّ تَقَدَّمَ إِسْحَاقُ إلَى مَجْلِسِ الشَّافِعِيِّ فَسَأَلَهُ عَنْ كِرَاءِ بُيُوتِ مَكَّةَ؟
¥