يغالبه الحياء أن يلحّ في السؤال عن عبد الرحمن, وهو أمام موكب جنائزي يصطف فيه ثمانية من أفراد الأسرة.
أحد الأخوال يدرك الموقف, ويعيد:
- محمد بخير, ولديه كسر في الفخذ، وضربات بسيطة، وعبد الرحمن في العناية المركّزة، ولم يتمّ تشخيص حالته جيداً، ونحن وهو تحت رحمة الله!
يعرف من نفسه أنه لا يستوعب أبعاد الحدث للوهلة الأولى، وقد تبدو مشاعره متجمدة إزاء موقف يتطلب الانفعال، وعزاؤه دوماً أن " الصبر عند الصدمة الأولى ".
عاد إلى معتكفه، وظلال الحزن على وجهه، والخبر قد سبقه إلى أصحاب الحجرات، وهم يتحدثون عن " موت سريري " وهو يقدّر أن الأمر كذلك، وأن الخبر يُعطى له بجرعات الألم.
أصابه التيهُ، وبدا عاجزاً تجاه الموقف الصعب، والجوّ في حالة حداد لم ترها العين.
الزيارة التالية خلال أسبوع، يذهب مشطوراً بين الأمل والحزن، وتحدّثه النفس بلعلّ وعسى، الابتسامة المنقوصة على الشفاه اليابسة، والتأكيدات تتوالى أن محمداً بخير!
- وعبد الرحمن .. أين ستدفنونه؟ يقولها, وهو يبتلع ريقه.
- الأطباء يقولون إنها حالة موت دماغي، لقد مكث فترة طوية بعد الحادث دون أكسجين، كان في حجر والدته، يحتمي بحنانها حين وقع القدر، وحين تساقط الصغار على وقع الارتطام، تعلق ثوبه الجديد بحديد السيارة فخنقه، لقد نقل إلى المستشفى دون ضربات في جسده , أراد أن يحمي بياض ثوبه من انثعاب الجروح؛ فانفجرت داكنة في داخله، وظل يومين بمستشفى عفيف، قبل أن تنقله طائرة الإخلاء الطبي إلى مستشفى الملك خالد الجامعي ..
يعيش على الأجهزة، والأطباء يسلمون عليك، ويطلبون رأيك في رفع الأجهزة!
- ليس لي رأي، هُم من يقف على التفصيلات ويقدّر الاحتمالات، وأُفضّل ألا تُرفع الأجهزة إلا إذا دعت الحاجة لذلك، لإنقاذ مريض له حظوظ في احتمال الحياة.
ينصرف الجميع، دون أن يلحظوا عليه الانكسار, فالانكسار عكّازة الآخرين للمرور بترفع على جراحك، ولكن تيار الحزن والرحمة يدمدم في صدره، هو منه على بعد أميال .. ماذا لو .. ألقى عليه نظرة الوداع قبل أن ترفع عنه الأجهزة.
الجواب .. هو لا جواب!
في 15 شوال يأتي الأخوال, أحمد وإخوانه, يسلمون ويعزّون ..
- إنا لله وإنا إليه راجعون، شهيد إن شاء الله.
- ليتك رأيت الجمع الذي صلى عليه أمس في جامع الشيخ صالح الونيّان، كانت جنازة مشهودة.
- أستاذته في الروضة, تقول لأمه: منذ رأيت وجهه، أحسست أنه من أهل الآخرة!
تماسك ولم تدمع عينه، وتذكر قول ابن الرومي:
وليس البُكا أن تسفحَ العينُ إنما أحرُّ البكاءينِ البكاءُ الموَلَّجُ
لم يتبين مدى تعلّقه به جيداً إلا في غيابه!
ينقلب إلى غرفته وفي خياله صورة الجسد الذابل ممدداً على السرير، ملفوفاً بالقماش الأخضر، مُغمض العينين، يتردد نفسه بدعم الأجهزة الطبية، وأشباح الموت تطيف به فيقول:
تَرَاءَاكَ عَيْنِي فِي السَّرِيرِ مُوَسّداً عَلَى وَجْهِكَ المكْدُودِ أَوْسِمَةُ الطُّهْرِ
بَرَاءَةُ عَيْنَيْكَ استَثَارَتْ مَشَاعِرِي وَفَاضَتْ بِأَنْهَارٍ مِنَ الدَّمْعِ فِي شِعْرِي
يستعيد جلسته الأخيرة التي لم يره بعدها.
حينما تذهب روحه لزيارة قبره التائه بين القبور، يجد زغب الكف الصغيرة تحول لنبتات خضراء على قبره, فيسجّل هذا المشهد:
وَكَفَّاكَ حِيناً تَعْبَثَانِ بِعَارِضِي وَحِيناً عَلَى كِتْفي وَحِيناً عَلَى صَدْرِي
أَرَى فَمَكَ الحلْوَ المعَطّرَ فِي فَمِي كَمَا اعتَدتُ هَذَا الحُبَ مِنْ أَوّلِ البرِّ
وَتُفْرِحُنِي أَطْيَافَكَ الخُضْرُ إِنْ بَدَتْ مُضَمَّخَةً، أَهْلًا بأَطْيَافِكَ الخُضْرِ
يستعيد نغمته, وهو يتلو عليه سورة العصر، إنها آخر كلماتٍ سمعها من ذلك الفم الطهور:
حَبِيبي فِي شَعْبَانَ أَلفيت زائراً طَروباً إِلَى لُقْيَاي مُبْتَسِمَ الثّغرِ
قَعَدتَ بِحِجْرِي وَالسُّرُورُ يَلفّني وَشَنَّفْتَ سَمْعِي تَالِياً سُورةَ العَصْرِ
أَرَاكَ تُعَزّيِنِي بِهَا وَتَلُومُنِي عَلَى جَزَعٍ تَخْشَاهُ مِنْ حَادِثِ الدَّهْرِ
أحسّ بشعور اليُتم، وتذكّر من يقاسمه الإحساس، غير والدته الثاكل؛ ألعابه المهشّمة، الدّراجة ذات الثلاث عجلات، قضمة حلوى لم يكملها، ثيابه التي أضربت عن النمو، وقررت البقاء في مرحلة الطفولة دون تحول, أراد أن يدخل مع بوابة العصافير للجنة!
¥