* و مسألة التصحيح والتضعيف ونقد الأحاديث والآثار، قد أفرد لها أئمة الحديث مصنفات ذكروا فيها قواعد عامة لضبط هذا العلم، لكنهم لم يقصدوا من ذلك أن يقحم الجهال والأغمار أنفسهم ويحشروا أنوفهم في الحكم على الأحاديث، دون الرجوع إلى حكم الراسخين من علماء الحديث، وعلى رأسهم أئمة الجرح والتعديل، وأصحاب الصحاح والمسانيد والسنن المشهورة.
ومعلوم أن قواعد الحديث، وهو ما يسمى بعلم " المصطلح "، وعلم
" الجرح والتعديل "، من أشد العلوم غموضا، وأصعبها على الفهم، ومع ذلك فإن المتطفلين عليه في زماننا هذا كثيرون! ومنهم هذا "المختلط "
الذي ظن أنه بقراءة بعض مصنفات " الجرح والتعديل "، المختصرة، فإنه يكون أهلا لأن يصحح أو يضعف.
وكأن المسألة أشبه بمسائل الضرب الحسابية، التي تدرس للطلاب في مراحل التعليم الأولية، فيستعين الطالب بجدول الضرب في حلها!
وليس الأمر بهذه السهولة، فإن نقد الروايات من أدق العلوم وأعمقها.
ولهذا تجد من يتكلم في الجرح والتعديل والنقد هم جهابذة الحفاظ، وهم أقل من القليل بالنسبة للآلاف المؤلفة من رواة الحديث والأثر في كل عصر.
ومنهج أصحاب الصحاح، وعلى رأسهم البخاري ومسلم، انتقاء الروايات، فإنهم لا يقبلون كل أحاديث الثقات الأثبات، كما أنهم لا يردون كل أحاديث الضعفاء، ولهذا تجد في رجال الصحيحين من رمي بشيئ من الضعف، فيظن الجهال بأن الشيخين قد فات عليهما معرفة ما في هؤلاء الرواة من الضعف، فيبادر إلى تضعيف الروايات.
* ونضرب على ذلك بمثال و هو: خالد القطواني، فقد ترجم له الحافظ في " التهذيب " [3/ 116] وذكر الاختلاف في تضعيفه وتوثيقه، ومع ذلك فقد أخرج له الشيخان.
ولو اقتصر الناقد على بعض ما ذكر في ترجمته في" الميزان " للذهبي،
أو "التقريب " لابن حجر، لحكم على كل رواياته بالضعف، وليست هذه طريقة أهل العلم في نقد الروايات.
* ومثله شهر بن حوشب، فقد أخرج له مسلم في الشواهد، وارتضاه الإمام أحمد حتى قال عنه
" ما أحسن حديثه "، وقال عنه البخاري " حسن الحديث "، و وثقه ابن معين وغيره. انظر التهذيب
[4/ 369].
وقال عنه الإمام الذهبي في الميزان [4/ 284] " قد ذهب إلى الاحتجاج به جماعة".
وقد حسن الحافظ ابن حجر أحاديثه في أكثر من موضع في الفتح، ومنها حديث أسماء في منع مصافحة النساء، انظر الفتح [13/ 204]، كما ذكرت ذلك في ردي السابق على " المختلط ".
وإنك لتعجب حين ترى مثل هذا الجاهل الذي ضعف حديث شهر بن حوشب، بناء على ما قيل فيه في "التقريب "، مع أن صاحب" التقريب "
نفسه حسن إسناده!
وهذا يؤكد ما ذكرته من أن مذهب الأئمة في نقد الأسانيد لا يعتمد على ما في التراجم المختصرة، كالتقريب ونحوه.
* ويقال أيضا عن سنن أبي داود والنسائي والترمذي ومسند أحمد وصحيحي ابن خزيمة وابن حبان، ما قيل في الصحيحين، إلا أن شروط هؤلاء في الرجال وفي الروايات أقل من شروطهما.
وقد حكم الترمذي بالصحة أو الحسن على كثير من الروايات التي في إسنادها رواة مختلف فيهم، وليس ذلك جهلا من الترمذي بحالهم ولا ذهولا عما قيل فيهم، ولكنه اختيار وتمحيص منه لمروياتهم.
و تفصيل الكلام على هذه المسائل يطول جدا وإنما قصدت الإشارة إليه هنا، حتى لا يغتر من لا علم عنده بكلام هذا "المختلط "، ويلتبس عليه الأمر.
* وسأضرب بعض الأمثلة مما ذكره "المختلط " في مقالاته السابقة، في الحكم على الأسانيد، بدون علم، ظنا منه أنه أهل لذلك.
1 _ ضعف حديث أميمة بنت رقيقة " إني لا أصافح النساء "، لأن في إسناده محمد بن المنكدر.
قلت: هكذا يقذف بالباطل ويهرف بما لا يعرف، ثم ينعي على غيره بأنهم مقلدة متعصبون!
فإنه لم يأت بنص واحد عن أحد من الأئمة في تضعيف هذا الحديث.
ومحمد بن المنكدر ممن أخرج له الجماعة، و ترجم له الحافظ في " التهذيب " [9/ 473] وذكر توثيق الأئمة له، ومنهم العجلي والشافعي، وقال ابن عيينة " كان من معادن الصدق "، وقال يعقوب بن شيبة
" صحيح الحديث جدا "، وقال إبراهيم بن المنذر " غاية في الحفظ والإتقان والزهد، حجة ".
قلت: و هذا الحديث رواه مالك في الموطأ [2/ 982] و صححه الترمذي [1/ 302] وغيره، ولا يلتفت إلى تضعيف هذا المتعالم" المخلط ".
¥