ولو فرض أن الرجل قد يقول: أن لا أعتقد الفضل، فلا يمكنه مع التعبد أن يزيل الحال الذي في قلبه من التعظيم والإجلال، والتعظيم والإجلال لا ينشأ إلا بشعور من جنس الاعتقاد، ولو أنه وهم، أو ظن أن هذا أمر ضروري، فإن النفس لو خلت عن الشعور بفضل الشيء امتنع مع ذلك أن تعظمه، ولكن قد تقوم بها خواطر متقابلة، فهو من حيث اعتقاده أنه بدعة يقتضي منه ذلك عدم تعظيمه، ومن حيث شعوره بما روي فيه، أو بفعل الناس له، أو بأن فلاناً وفلاناً فعلوه، أو بما يظهر له فيه من المنفعة يقوم بقلبه عظمته، فعلمت أن فعل هذه البدع يناقض الاعتقادات الواجبة، وينازع الرسل ما جاؤوا به عن الله، وأنها تورث القلب نفاقاً، ولو كان نفاقاً خفيفاً " (16).
قلت: وهكذا تخصيص يوم ميلاد الشخص هو ناشيء في الحقيقة عن تعظيم لهذا اليوم، ولو ادعى أحدٌ عدم وجود هذا التعظيم لم يسلّم له، لأن تخصيص هذا اليوم بالانتظار ثم الاجتماع ثم الاحتفال والفرح والأكل والشرب ومظاهر العيد من الألعاب ونحوها ... مع ما يصاحب ذلك من الدعوات بعام جديد سعيد هو بحد ذاته تعظيم، ولو لم يكن فيه تعبد.
الوقفة الثالثة:
قول الشيخ: أنه احتفال ببراءة وعفوية ...
ومفهومه أن من يقيمه لا يقصد التعبد ولا التشبه، وهذا التعليل لا أعلم من قال به من أهل العلم، فمن أين للشيخ هذا الرأي!! بل هو مردود بحديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال " نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: هل كان فيها عيدٌ من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك، وإنه لا وفاء لنذرٍ في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم} (17).
قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله عند هذا الحديث:
" التاسعة: الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده" (18).
قال الشيخ عبدالله الدويش رحمه الله: " أي أنه لما جعل نذر الذبح في مكان عيد المشركين نذر معصية، ومنع من الوفاء به مع كون الناذر لم يقصده، دل ذلك على الحذر من مشابهتهم " (19).
ومقصود المشايخ رحمهم الله أن الصحابي رضي الله عنه لا يظن به أن يقصد ذلك المكان من أجل إحياء عيد المشركين لو كان في نفس الموضع، ومع ذلك نهاه النبي صلى الله عليه وسلم، لأن صورة الفعل فيها مشابهة للكافرين وإن لم ينو ذلك.
ولهذا أيضاً نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند طلوع الشمس حتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذٍ يسجد لها الكفار (20)، ومن المعلوم أن المسلم لايخطر بباله أن يسجد للشمس لو صلى في ذلك الوقت، لكن حسماً لمادة المشابهة في صورة الفعل منع من ذلك صلى الله عليه وسلم.
وفي نحو هذا المعنى قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح حديث {أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله}:
" هل الفعل يشعر بالنية، أو نقول المضاهاة حاصلة سواءً كانت بنية أو بغير نية؟
الجواب: الثاني، لأن المضاهاة حصلت سواءً نوى أو لم ينو، لأن العلة هي المشابهة، وليست العلة قصد المشابهة، فلو جاء رجل وقال: أنا لا أريد أن أضاهي خلق الله، أنا أصور هذا للذكرى مثلاً وما أشبه ذلك ... نقول: هذا حرام، لأنه متى حصلت المشابهة ثبت الحكم، لأن الحكم يدور مع علته، كما قلنا فيمن لبس لباساً خاصاً بالكفار إنه يحرم عليه هذا اللباس، ولو قال إنه لم يقصد المشابهة نقول: لكن حصل التشبه، فالحكم مقرون بعلة لا يشترط فيه القصد، فمتى وجدت العلة ثبت الحكم " (21).
وهكذا في مسألة أعياد الميلاد فلو قال شخص أن لا أقصد التشبه قلنا له: إن التشبه بهم حاصل سواءً قصدت أو لم تقصد.
الوقفة الرابعة:
قول الشيخ: (إن ما يسمى بعيد الميلاد (الشخصي) كثيرون لا يسمونه عيداً ... )
أقول: وبعض من يرتكب الشرك يسميه بغير اسمه فيسمونه تبركاً وتوسلاً ... وكذلك من يرتكب الكبائر يسميها بغير اسمها فيسمون الخمر كحولاً ومشروبات روحية، ويسمون الربا فوائد ...
¥