4 - ومما يفسر الحديث السابق ويؤيد ما تقدم قوله تعالى: {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون}، وقال تعالى: {إلا أصحاب اليمين في جنات يتسألون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين}، وقال تعالى: {فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى} ([10]).
قال ابن كثير في تفسير ما سبق (8/ 282): (هذا إخبار عن الكافر الذي كان في الدار الدنيا مكذبا للحق بقلبه, متوليا عن العمل بقالبه فلا خير فيه باطنا ولا ظاهرا) ا. هـ.
وقال تعالى: {ويل يومئذ للمكذبين. وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون. ويل يؤمئذ للمكذبين}.
وأخرج مسلم (81) وغيره من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ?: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار».
كل هذه النصوص تشترط العمل للنجاة من عذاب الله تعالى، وتفيد أيضا أن من أسباب الكفر ترك العمل بالكلية, وهذا مما يفسر حديث أبي سعيد الخدري.
5 - ومما يفسر حديث أبي سعيد السابق, ما رواه البخاري (136) ومسلم (246) واللفظ له من حديث نعيم بن عبدالله عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ? يقول: «إن أمتي يأتون يوم القيامة غُرًّا محجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرَّته فليفعل».
وفي لفظ عند مسلم (247) من طريق أبي حازم عن أبي هريرة: فقالوا: يا نبي الله, أتعرفنا؟! قال: «نعم, لكم سيما ليست لأحد غيركم, تَرِدُون علي غرا محجلين من آثار الوضوء».
وفي لفظ آخر عنده (249) من طريق العلاء عن أبيه عن أبي هريرة: فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك؟ فقال: «أرأيت لو أن رجلا له خيل غُرّ محجّلة بين ظهري خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله؟!». قالوا: بلى يا رسول الله. قال «فإنهم يأتون غُرًّا محجَّلين من الوضوء».
وهذا يدل على أن رسول الله ? يعرف أمته يوم القيامة بهذا العمل العظيم وهو الوضوء, فمن لم يأت به فلا يكون من أمته أي: أمة الإجابة.
وكل ما تقدم مما يفسر حديث أبي سعيد الخدري ويبينه ويقيده.
ولكن قد يقال: على ماذا يحمل حديث أبي سعيد الخدري؟
فأقول – وبالله التوفيق -: قال أبو بكر ابن خزيمة في «التوحيد» (2/ 732): (هذه اللفظة: «لم يعملوا خيرا قط» من الجنس الذي يقول العرب ينفى الاسم عن الشيء لنقصه عن الكمال والتمام, فمعنى هذه اللفظة على هذا الأصل: لم يعملوا خيرا قط على التمام والكمال ([11]) , لا على ما أوجب عليه وأمر به) ا. هـ.
وأنا أذهب إلى ما ذهب إليه أبو بكر ابن خزيمة, إذا كان يقصد بالكمال هو الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويستحق العقوبة عليه, جمعا بين هذا النص وما تقدم من الأدلة, وكل ما أمكن الجمع بين الأدلة فهذا هو الواجب, وحمل حديث أبي سعيد الخدري على ما تقدم معروف في الشريعة, وجاءت الأدلة عليه, وذلك عندما يأتي النفي لمسمى ([12]) شيء في الكتاب والسنة يكون محمولا على واحد من أمرين:
1 إما نفي لهذا الشيء كله.
2 أو نفي لكماله الواجب.
فأما الأول فمثاله: ما أخرجه الشيخان: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» , وأيضا ما جاء في «الصحيحين»: «ارجع فصل فإنك لم تصل».
فقوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة» و «لم تصل» هذا النفي لكل صلاة, وأن الصلاة باطلة ولا تصح.
وأما الثاني فمثاله: ما أخرجه الشيخان: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ... »، وأيضا ما جاء في «السنن» عن ابن عباس ([13]): «من سمع النداء فلا صلاة له إلا من عذر» , وما أخرجه البخاري: «والله لا يؤمن, والله لا يؤمن, والله لا يؤمن, الذي لا يأمن جاره بوائقه».
فعلى هذا يكون قوله ?: «بغير عمل عملوه, ولا خير قدموه» إما أن يكون المقصود في العمل بالكلية, أو كماله الواجب, والثاني هو الذي دلت عليه الأدلة, والله تعالى أعلم.
¥