المحرفة السابقة, ونتيجة ذلك الحتمية خروج الروم من بلاد العرب وكذلك وقع, ولما وصلت في القراءة إلى ذلك الكلام القبيح غضبت وألقيت الكتاب على الأرض, وكانت عندي كاتبة جرمانية فنظرت إلي نظرة استنكار وكأنها تقول هب أن المؤلف تعسف وعدل عن الحق فما ذنب الكتاب؟ فأخذت الكتاب وفتحته وقلت لها اقرئي فلما فرغت من قراءة ذلك الكلام عذرتني فيما فعلت, إما مداراة وهو الظاهر أو اقتناعاً بما فعلته أنه صواب.
البحث الثاني في سرد البراهين العقلية التي استدل بها هرقل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم, البرهان الأول:
المدة التي ماد فيها النبي صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب هي صلح الحديبية وما بعده إلى أن نقضت قريش العهد فغزاهم النبي
صلى الله عليه وسلم وتم فتح مكة, واختيار هرقل لأقربهم نسباً لا يخلو من حكمة. فإن القريب سواء أكان صديقاً أم عدواً يعرف من أخبار قريبه ما لا يعرفه البعيد, وكذلك أمره أن يجعل أصحابه من ورائه وأن يكذبوه أن كذب, فإن هرقل كان يعلم أن العرب حتى في جاهليتها وخصوصاً اشرافها يستقبحون الكذب ولا يرضون به أن يؤثر عنهم, وقد صرح أبو سفيان لشدة عداوته للنبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يمنعه من الكذب إلا الخوف من أن يحدث أصحابه أهل مكة إذا رجعوا إليهم أنه كذب, وهذا البرهان هو سؤال هرقل عن نسب هذا الرجل الذي يدعي أنه نبي أهو شريف أم وضيع, فأخبره أبو سفيان أن نسبه شريف, وإنما سأل هرقل هذا السؤال علماً منه بإن الله أرحم بعباده من أن يبعث رسولاً ذا نسب وضيع في قوم, ويكلفهم أتباعه وطاعته لأن النفوس تنفر من ذلك كل النفور, ولذلك نرى الملوك دائماً من ذوي الأنساب الشريفة بخلاف الفقر فإنه لا يضر النسيب الحسيب كما قال الشاعر:
ولا ترى في غير الصرم منقصة وما سواه فإن الله يكفيني
قال تعالى في قصة طالوت من سورة البقرة رقم 247: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أ هـ. ولم نر رسولاً أرسله الله من أهل بيت وضيع, محتقر في قومه وبهذا احتج المهاجرون على الأنصار حين قالوا منا أمير ومنكم أمير, فقال المهاجرون: أن العرب لا تذعن إلا لهذا الحي من قريش ولذلك كانت الأمامة في قريش بنص الحديث الصحيح, ولم يخف هذا على هرقل فقال للترجمان: قل له سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.
البرهان الثاني: قال هرقل في سؤاله لأبي سفيان بن حرب فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ ذكرت أن لا, قال هرقل في الأجوبة وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول ذكرت أن لا, فقلت لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يتأسى بقول قيل قبله. أ هـ.
قال كاتب هذا المقال كل من نظر بإمعان في تاريخ المقالات, والدعوات, والطرائق, والمذاهب يجد أكثرها قد اتبع فيه اللاحق السابق حذوك القذة بالقذة حتى في الأمم التي ينتشر فيها العلم فكيف بأمة أمية! فلذلك سأل هرقل أبا سفيان هل دعا أحد من العرب عموماً, ومن أهل مكة خصوصاً إلى دعوة مماثلة لدعوة هذا الرجل فلم يسمع أبا سفيان إلا أن أجاب بالنفي فضم هرقل هذه الحجة إلى سابقتها وأخذت نفسه تميل إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم استناداً إلى هذه الحجج المنطقية التي هي الغاية في الدقة والاستقصاء.
البرهان الثالث: قال هرقل لأبي سفيان فهل كان من آبائه من ملك؟ قال أبو سفيان: لا, قال هرقل: وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا, قلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه. أ هـ.
¥